تذوقهم للبيان ما وصفت لك، تذوق ملتبس بالطباع مردود إلى السلائق، مشحوذ بمدارسة الشعر وسماعه وروايته؛ ولكن لم يضر جمهور هذا الطباع شيئاً أن استفاض الجدل وظهر سلطانه، وأن صارت كل فرقة تمضغ كلاماً، تناضل به عن رأيها، وتقطع به حجة خصمها، طلباً للغلبة لا تمحيصاً للرأي، وفحصاً عن الحق.
ورضي الله عن أبي بكر الباقلاني، فقد جمع في كتابه خيراً كثيراً، واستفتح بسليم فطرته أبواباً كانت قبله مغلقة، وكشف عن وجوه البلاغة حجاباً مستوراً. ولكنه زل زلة كان لها بعد ذلك آثار متلاحقة، وإن لم يقصد بها هو قصد العاقبة التي انتهت إليها.
كان الباقلاني حقيقاً أن ينهج النهج الذي أدناه إليه تمحيص مسألة (الإعجاز)، ويومئذ يجعل الشعر الجاهلي أصلاً في دراسة بيان عرب الجاهلية، من ناحية تمثله لخصائص بيان البشر، والباقلاني رضي الله عنه كان يجد في نفسه وجداناً واضحاً أن خصائص بيان القرآن مفارقة لخصائص بيان البشر، وقد ألح إلى ذلك في كتابه، كما ألح إليه من سبقه. بيد أن جدل المتكلمين قبله وعلى عهده، وخوض الملحدين في أصول الدين كما قال، ومنهجهم في اللجاجة وطلب الغلبة، كل ذلك لم يدَعْه حتى استغرقه في الرد عليهم، على مثل منهاجهم من النظر. ثم دارت به الدنيا، لما بلغه أن بعض جهالهم يعدل القرآن ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام.
وأنت تستطيع أن تقرأ كتابه فصلاً فصلاً لتجد مصداق ما أقول لك. حتى إذا انتهى إلى الذي هاجه، من موازنة القرآن ببعض الأشعار، هب إلى تسفيه هذه الموازنة، فدعاك في أوسط كتابه أن تعمد معه إلى ما لا تشك في جودته من شعر امرئ القيس، وما لا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، كما قال في كتابه [ص:٢٤١]، فطرح بين يديك هذه القصيدة، وجعل يفصلها وينقدها