ويمحو من محاسنها ويثبت، ويقف بك على مواضع خللها، ويفضي بك إلى مكامن ضعفها، ولم يزل يعريها حتى كشف الغطاء عن عوارها، ثم ختم ذلك بقوله:((وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها، تتفاوت في أبياتها تفاوتاً بيناً في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والاستصعاب، والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها)).
فلما انتهى من ذلك افتتح فصلاً شريفاً نبيلاً، ذكر فيه آيات من القرآن، وحاول أن يقف بك على بدائع نظمها وبيانها، وهذا الفصل هو أدل الدليل على أن الباقلاني، لو كان استقام له المنهج الذي ذكرناه، لبلغ فيه غاية يسبق فيها المتقدم، ويكد فيها جهد المتأخر. ولكنه لم يزد في هذا الفصل على أن جعل يقف بك على بيان شرف الآيات لفظاً ومعنى، ولطيف حكايتها، وتلاؤم رصفها وتشاكل نظامها، وأن نظم القرآن لا يتفاوت في شيء، ولا يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الأعلى والفضل الأسنى (كتابه ص ٣٠٢، ٣٠٥)؛ وذكر تناسب الآيات في البلاغة والإبداع، وتماثلها في السلاسة والإعراب؛ وانفرادها بذلك الأسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب. أما غيرها من الكلام، فهو يضطرب في مجاريه ويختل تصرفه في معانيه، وهو كثير التلون دائم التغير والتنكر، ويقف بك على بديع مستحسن، ويعقبه بقبيح مستهجن، ويأتيك باللفظة المستنكرة، بين الكلمات هي كاللآلئ الزهر، (كتابه ص ٣١٣، ٣١٤). ثم انتهى إلى قوله في القرآن:((وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام، وما له من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه المسلماء، ولا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها إلا قصرت، ولا تظهر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا قد أخللت. إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس، لأضل من حمار باهلة، وأحمق من هبنقة)) (كتابه ص ٣٢١، ٣٢٢).