وصدق الباقلاني في كل ما قال، إلا أنه لم يزد على أن بيَّن خلو القرآن من الاختلاف والتغير، وبراءته من كل ما يلحق كلام الناس من عيب وخلل، وكل ما هو قرين لضعف طبائعهم، وإن استحكمت قواهم، ودالّ على عماهم عن كثير من الحق، وإن استنارت بصائرهم. ولعمري إنه الحق لا ينال منه الباطل، ولكنه غير الذي ينبغي أن نتطلبه من كشف أصول البيان التي يفارق بها بيان القرآن بيان البشر من الوجه الذي فصلناه.
وليس هذا موضع بحثنا الآن، ولكن بحثنا عن الشعر الجاهلي، وما كان من أمره. فهذه الموازنة التي هاجت الباقلاني كما ذكر هو، حملته على هتك الستر عن معلقة امرئ القيس، ليكشف للناس عيبها وخللها، لا ليستخرج منها خصائص بيانهم، وكيف كانت هذه الخصائص مفارقة لخصائص بيان القرآن، فلما زلّ الباقلاني هذه الزلة وأخطأ الطريق، زلّ به من بعده وأخطأه، وأخذوا الشعر الجاهلي كله هذا المأخذ، ولكن العجب بعد ذلك أن (الشعر الجاهلي) ظل عند البلغاء وجمهور الناس هو مثقف الألسنة والحجة على اللغة، والشاهد على النحو وما إلى ذلك. ولكنهم إذا جاؤوا لذكر القرآن وإعجازه، اتخذوه هدفاً للنقد والتفلية وإظهار العيب وتبيين الخلل، بإزاء كلام بريء من كل عيب وخلل؛ فيبقى الأمر أمر موازنة لا عدل فيها. وكان حسبهم من الدليل أن أهل الجاهلية بتركهم معارضة القرآن بشعرهم أو كلامهم، هو إقرارٌ لا معقب عليه بفضل هذا القرآن على شرهم وكلامهم، فلم تكن بالباقلاني حاجة إلى سلوك هذا الطريق الذي سلكه، إلا ما حمله عليه ما نعق به جاهل من جهال المتلحدة، من الموازنة بين الكلامين، وتفضيل شعرهم على القرآن.
وكان قد نازع ذلك بابٌ آخر من اللجاجة، في الموازنة بين شعر الجاهلية، وشعر المحدثين من شعراء الإسلام، وظل الجدال في تفضيل أحدهما على الآخر باباً تقتحمه الألسنة طلباً للمغالبة والظهور، وداخل ذلك من الإزراء على الشعر