للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجاهلي وعيبه ما داخل، فكان هذا أيضاً صارفاً عن مدارسته على الوجه الذي طلبناه في صدر حديثنا. وفي خلال ذلك كله، تجمعت على فهم الشعر الجاهلي أخطاء شديدة الخطر، غَشَّت حقيقته بحجاب كثيف من الغموض، زاده كثافة ما لحق الشعر الجاهلي من التشتيت والضياع، وما أصابه من اختلال الرواية بالزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، حتى اختلطت فيه المعاني أحياناً اختلاطاً، سهّل لكل عائب أن يقول فيه ما عنَّ له. ومع كل ذلك أيضاً بقي الشعر الجاهلي مثقفاً للألسنة، ومعدناً لشواهد اللغة والنحو والبلاغة.

فليت شعري أي بلاء ترى أصاب هذا الشعر!!

ثم تتابعت العصور على ذلك وعلى ما هو أشنع منه، حتى أفضينا به في هذا العصر الحديث إلى أقبح الشناعة، يوم فرض الاستعمار الغربي الغازي، على مدارسنا منهجاً من الدراسة لا يقوم على أصل صحيح، كان يرمي في نهايته إلى إضعاف دراسة العربية إضعافاً شائناً، لا مثيل له في كل لغات العالم التي يتلقاها الشباب في معاهد التعليم على اختلاف درجاتها. ثم طمت الشناعة بعد سنين، حين عزلت اللغة العربية كلها عزلاً مقصوداً عن كل علم وفن، وأصبح الشباب يتعلم لغته على أنها درس محدد، هو ثقيل بهذا التحديد المجرم على كل نفس، وخاصة نفوس الشباب الغض. ثم لما أنشئت الجامعة، ودخلها هؤلاء الشباب على ما هم فيه من الملل بلغتهم، ومن الاستهانة بأمرها، طلع قرن الشيطان بفتنة (الشعر) والتشكيك في صحة روايته، وطار الشر إلى الصحافة، فاتخذت اللغة القديمة كلها لا الشعر الجاهلي وحده، مادة للهزء والسخرية، وللنكتة والزراية، لا بل تندروا بكل من بقي علما شيء من المحافظة على سلامة اللغة، سلامة هي كإبراء الذمة لا أكثر ولا أقل.

هذا تاريخ مختصر للأسباب التي وقفت بالشعر الجاهلي حيث وقف قديماً، فحالت بين علماء البلاغة والمنهج الذي كشفته وبينته، وكان لزاماً عليهم وعلينا

<<  <   >  >>