أن نسلكه لدراسة إعجاز القرآن، دراسة صحيحة سليمة من الآفات. وهو تاريخ أشد اختصاراً للذي تبع ذلك في العصر الحديث، لما صار (الشعر الجاهلي) ملهاة يتلهى بها كل من ملك لساناً ينطق، حتى ألقى ذلك كله ظلاً من الكآبة والظلمة على دراسات المحدثين في الجامعة وغير الجامعة، حين يدرس أحدهم هذا الشعرَ. هذا الشعرُ الذي كان حين أنزل الله القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، نوراً يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله لبيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط. فقد كانوا عبَدة البيان قبل أن يكونوا عبدة الأوثان! وقد سمعنا بمن استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط بأحد منهم استخف ببيانهم.
وأنت خليق أن تعرف أن الشيء الذي طلبته واحتججت له، وحاولت أن أكشف عن منهاجه ومذهبه، إنما يتعلق بخصائص البيان على القرآن، وخصائص بيان البشر على اختلاف ألسنتهم، وأن مخرج هذا غير مخرج هذا، وأن الشعر الجاهلي، إنما هو مادة الدراسة الأولى، لأن القرآن نزل بلسان العرب، والذين نزل عليهم ثم تحدّاهم وأعجزهم، هم أصحاب هذا الشعر والمفتونون به وببيانه. وهذا باب غير الباب الذي افتتحه الباقلاني، ثم فجر عيونه إمام البلاغة (عبد القاهر الجرجاني) المتوفى سنة ٤٧٤ هـ في كتابيه (دلائل الإعجاز)، و (أسرار البلاغة)، ثم أبدع فيه العلماء ما أبدعوا، وزادوا فيه عليه ونقصوا. وكان ذلك بعد أن أغلق الباب الذي فصلنا القول فيه، كان هو الجدير بأن يفتتحه الباقلاني وعبد القاهر.
فإذا تم ما دعونا إليه لأهل هذا اللسان العربي يوماً ما، وعسى أن يكون ذلك بتوفيق الله، فسيكون ذلك فتحاً مبيناً لا في تاريخ البلاغة العربية وحدها، بل في تاريخ بلاغة الجنس الإنساني كله. وسيكون أيضاً مقنعاً، ورضي لهذا (العقل الحديث) الذي يتطلب في معرفة (إعجاز القرآن) ما يرضى عنه