للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن أهل الأندلس بدأوا باعتناق مذهب الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المدينة المنورة، المتوفى سنة ١٧٩هـ/٧٩٥ م، وذلك منذ أيام الأمير هشام بن عبد الرحمن. وقد انتقلت الفتوى تبعاً لذلك إلى رأي مالك بن أنس، وانتشر علمه ورأيه في قرطبة والأندلس جميعاً، بل في شمال أفريقيا أيضاً. وقد وضع الإمام مالك في المدينة كتاباً في الفقه والحديث سماه (الموطأ) أي السهل الواضح. ثم ذاع صيت هذا الإمام، وانتشر كتابه في العالم الإسلامي، وأقبل الأندلسيون على اعتناق مذهبه. أما كيفية وصول هذا المذهب إلى الأندلس، فترجع إلى جهود بعض الفقهاء ورجال العلم الذين كانوا يرحلون إلى الحج في الحجاز، وهناك يلتقون بالإمام مالك، ويأخذون عنه علمه ومذهبه. وعندما رجع هؤلاء إلى بلدهم وصفوا فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره، فانتشر رأيه وعلمه بالأندلس. وكان رائد هذه الجماعة رجل يدعى زياد بن عبد الرحمن ابن زياد اللخمي المعروف بـ (شبطون)، توفي في حدود سنة ٢٠٤ هـ/٨١٩ م، وهو الذي كان فقيه الأندلس على مذهب مالك، وهو أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس، وأخذ عنه تلميذه يحيى بن يحيى الليثي (١٥). وكان هذا الأخير المتوفى سنة ٢٣٤ هـ/٨٤٨ م يلقب بعاقل الأندلس، ويروى أن الإمام مالك هو الذي لقبه بهذا اللقب. فقد ارتحل يحيى إلى المدينة ولازم الإمام مالك للدراسة، فبينما هو عنده في مجلسه، مر فيل في شوارع المدينة، فخرج جميع الطلبة لمشاهدته، وبقى يحيى بن يحيى في مكانه لم يخرج، فقال له الإمام مالك: " ما لك لم تخرج لتنظر الفيل وهو لا يكون في بلادك؟ فقال له: لم أرحل لأبصر الفيل، وإنما رحلت لأشاهدك وأتعلم من علمك وهديك. فأعجبه ذلك منه، وسماه عاقل الأندلس " (١٦).

أما على الصعيد الرسمي، فقد استهوى مذهب مالك، كما يُروى، الأمير هشام بن عبد الرحمن الذي نقل إليه بعض الأندلسيين ثناء وإعجاب مالك بن أنس به ومدحه له بقوله: نسأل الله أن يزين موسمنا به، أو نسأل الله أن يزين حرمنا بملككم. ولهذا فقد حمل هشام الناس على مذهب الإمام مالك، وترك مذهب الأوزاعي (١٧). وبطبيعة الحال، لا يمكن لمذهب من المذاهب أن ينتشر في بلد ما لمجرد الإعجاب المتبادل بين إمام المذهب وأمير البلد، ولا بد أن تكون هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية ونفسية ساعدت على انتشار مذهب الإمام مالك في الأندلس.


(١٥) المصدر نفسه، قسم ١، ص ١٥٤ - ١٥٥ رقم (٤٥٨)؛ المقري: ٢/ ٤٥ - ٤٦، ٣/ ٢٣٠.
(١٦) الحميدي، جذوة المقتبس، ص ٣٨٢ - ٣٨٣، رقم (٩٠٩)؛ المقري: ٢/ ٩.
(١٧) انظر: ابن القوطية، ص ٤٣؛ أخبار مجموعة، ص ١٢٠؛ المقري: ٣/ ٢٣٠.

<<  <   >  >>