للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلقد قامت الإمارة الأموية مستقلة عن المشرق، وبشكل خاص عن الدولة العباسية التي كان مذهبها الرسمي هو المذهب الحنفي. ويبدو أن تآلفاً في الموقف إزاء الدولة العباسية جمع بين مالك بن أنس والأمير هشام بن عبد الرحمن. فقد كان الإمام مالك لا يميل إلى العباسيين، حتى أنه أفتى ضدهم لصالح انضمام الناس إلى ثورة محمد ذو النفس الزكية. وقد أدت فتواه إلى غضب الخليفة أبو جعفر المنصور، ووالي المدينة الذي ضربه بالسياط. ولهذا فاعتناق أهل الأندلس، وأميرهم بشكل خاص لمذهب مالك يحمل بعداً سياسياً، ويحقق لهم النزعة الاستقلالية عن غيرهم من البلدان، ويؤكد شخصيتهم المتميزة.

ومن ناحية أخرى، فقد كان لطبيعة أهل الأندلس والمغرب أثر في تقبلهم لمذهب مالك وعزوفهم عن غيره. وذلك أن هذه الطبيعة كانت تتميز بالبساطة والبعد عن التعقيد، وهي لهذا تشبه طبيعة أهل الحجاز الذين تغلب عليهم نزعة أهل الحديث والاعتماد على مذهب مالك الذي يتقيد بنصوص القرآن والحديث، ولا يلجأ إلى استعمال الرأي والقياس إلا في حدود ضيقة. وهذا على عكس البيئة العراقية التي تتميز بالتعقيد، لأنها تضم أجناساً متعددة ومللاً مختلفة، مما أدى إلى ظهور قضايا ومشاكل جديدة لا تنطبق عليها النصوص، وتحتاج إلى الاجتهاد والاستنتاج العقلي، والقياس، وعلى هذه الأسس يقوم المذهب الحنفي، ويعرف اتباعه بأهل الرأي والقياس. أما عقلية أهل الأندلس فكانت تغلب عليها نزعة أهل الحديث، ولهذا اعتمدوا أولاً على مذهب الأوزاعي، وهو من أنصار مدرسة الحديث، ثم اعتمدوا بعد ذلك على مذهب مالك الذي يسير في هذا الاتجاه، ويعرف أصحابه بأهل الحديث.

وهناك عامل آخر ربط أهل الأندلس بأهل الحجاز أكثر مما ربطهم بأهل العراق.

ذلك أن معظم العرب الفاتحين للأندلس كانوا من أصل حجازي، وخاصة أولئك الذين جاءوا مع موسى بن نصير. أما البقية فهم من بلاد الشام ومصر، أي الذين دخلوا مع بلج بن بشر. ولم يكن في هذه الجيوش من ينتمي إلى أهل العراق. ومن هنا، فقد كان من الطبيعي أن يحاول هؤلاء الحجازيون الاتصال بأهاليهم وذويهم والعودة لأداء فريضة الحج، وقد ساعد هذا الأمر على اتصالهم بالإمام مالك والتعرف على مذهبه.

وعلى أية حال، فإن انتشار مذهب مالك، وتمسك الأمراء الأمويين به سواء بقصد الإعجاب به وتفضيله على غيره من المذاهب أم لتأكيد شخصيتهم الاستقلالية، أدى إلى نوع من الاستقرار في البلاد. لأن سياسة المذهب الواحد هذه جنبت الثغور الإسلامية، ورجال القبائل بشكل عام شرور الفتن المذهبية، وحفظت لها سلامتها ووحدتها الروحية. واستمرت الأندلس طيلة عهد الإمارة، بل طيلة العهود الإسلامية الأخرى

<<  <   >  >>