للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أساليب قاسية جداً في سحق حركات المولدين، وتثبيت السلطة الأموية في البلاد.

ثار المولدون في طليطلة على الأمير الحكم عام ١٨١هـ/٧٩٧ م، وتزعم الثورة رجل يدعى عبيدة بن حُمَيْد. وقد استطاع الحكم أن يقضي على هذه الثورة بواسطة مولد من مدينة وشقة اسمه عمروس بن يوسف، وقد نجح هذا الأخير بإغراء بعض وجهاء المدينة لاغتيال عبيدة بن حميد، وبهذا خمدت الثورة إلى حين. وحاول الحكم استخدام أسلوب الدهاء والحيلة مع أهل المدينة، فعين عليهم عمروس بن يوسف حتى يطمئنوا إليه لأنه من بني جلدتهم. وعندما أنس إليه أهل طليطلة، تظاهر أمامهم بأنه أكثر منهم حقداً على الأمير الحكم وعلى بني أمية عامة، فوثقوا به ومنحوه طاعتهم وأطلعوه على أسرارهم. ولكنه، وبتوجيه من الأمير الحكم كان يبيت لهم خطة دموية للقضاء على مقاومتهم المستمرة. فأقنع زعماءهم بضرورة بناء قلعة حصينة بظاهر طليطلة بحجة إيواء الجند والمماليك، بعيداً عنهم وعن نسائهم. فبُنيت القلعة وأُخذ التراب اللازم لبنائها من نفس المكان، فظلت فيه حفرة كبيرة. وأخبر الأمير الحكم بانتهاء البنيان لاتخاذ الخطوة التالية من العمل، فسير الحكم جيشاً بقيادة ابنه عبد الرحمن، بحجة مقاتلة النصارى في الشمال. وعندما وصل هذا الجيش بالقرب من طليطلة أُعلن عن انسحاب العدو، وبدأ الجيش بالتهيؤ للرجوع. لكن عمروس خرج إلى الأمير، مع وجهاء أهل المدينة، ودعوه للدخول، فوافق الأمير عبد الرحمن بعد تمنع. ثم أقام عمروس وليمة كبيرة للأمير، دعا إليها زعماء المدينة وكبار الشخصيات فيها. فحضروا إلى القلعة التي احتشد فيها الجند، وقد أوهمهم عمروس أنهم إذا انتهوا من طعامهم خرجوا من باب غير الباب التي دخلوا منه. ولكن أحداً منهم لم يستطع الخروج لأن الجند الذين اصطفوا على طرف الحفرة قتلوا كل الداخلين دون أن يشعر بهم الباقون، وهكذا بلغ عدد القتلى نحو سبعمئة رجل (٣٥). ومن المؤرخين من يبالغ فيجعل عددهم خمسة آلاف وثلاثمئة رجل (٣٦).

ويدل هذا على عظم أمر هذه المذبحة التي سميت بوقعة الحفرة والتي جردت المدينة من زعمائها، وأعيانها المتطلعين دوماً إلى الثورة. ولكن هذه القسوة لم تمنع طليطلة من التمرد على الأمراء الأمويين إلا لفترة قصيرة، فسرعان ما تواصلت الثورة ثانية في عهد الحكم نفسه، وفي عهد خلفائه من بني أمية. ثم اتخذت ثورات المولدين بعداً أخطر حين تولى السلطة أمراء ضعاف، فظهرت بوادر التفكك والتجزء والحركات الانفصالية، مثل حركة ابن حفصون، كما سنرى فيما بعد.


(٣٥) ابن عذاري: ٢/ ٧٠.
(٣٦) ابن القوطية، ص ٤٨، وانظر أيضاً، ص ٤٥ - ٤٩.

<<  <   >  >>