للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أفزعت هذه الحالة غلاة المتعصبين من رجال الدين، وبدا لهم مستقبل الكنيسة مخيفاً، لإعراض أبنائهم عن الثقافة المسيحية والاتجاه نحو الاستعراب. وعندما لم يفلحوا في وقف هذا التيار، حاولوا افتعال أزمة مع الحكم العربي المتسامح، وذلك بإظهار الاستخفاف بالإسلام، وسب نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، والتقول عليه بالباطل إلى حد الشطط، استفزازاً لمشاعر المسلمين وانتهاكاً لحرمة ديانتهم جهراً وبغير سبب. وكانوا بهذا يرمون إلى خلق جو من التوتر والشعور بالاضطهاد، لأن الشرع الإسلامي يعاقب على هذه الجريمة بالموت. ومن ثم يبدو للمسيحيين بأن المسلمين يقتلون إخوانهم ويضطهدونهم، وهكذا يمكن استعادة من أسلم من هؤلاء، أو حملهم على عدم التعاطف والتعاون مع المسلمين.

ولقد تزعم هذه الفتنة المتطرفة وحرض عليها بعض الغلاة من أمثال أيلوخيو Eulogio، والفارو Alvaro، وذلك في أواخر عهد الأمير عبد الرحمن الثاني. فكانا يدعوان النصارى إلى سب الرسول (صلى الله عليه وسلم) والطعن في الإسلام علناً، واقتحام المساجد والاعتداء على المسلمين والتقليل من شأن دينهم. وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء المتعصبين الانتحاريين لم يكن يزيد في مجموعه عن أربعين شخصاً، لكن حكومة قرطبة خشيت سوء عاقبة هذه الحوادث، وأثرها على شعور عامة المسلمين. فلم تجد مناصاً من تطبيق الشرائع والقوانين بمعاقبة هؤلاء بالموت، لأن عدم معاقبتهم يؤدي إلى استخفاف الناس، وقلة اكتراثهم بسلطة الدولة ودينها الرسمي، وذيوع حركة التمرد بين عدد كبير من المتطرفين. ومع هذا، فلم يشأ الأمير عبد الرحمن أن يلجأ إلى وسائل متطرفة للقضاء على الحركة، ولم ينتقم من جميع المستعربين، بل اكتفى بالأحكام القضائية التي كان يصدرها القضاة على من يثبت عليه القيام متعمداً بسبب الإسلام والنيل من نبيه الكريم. وظلت هذه الموجة من الغلو مستمرة في قرطبة، حتى ضج منها المسيحيون المعتدلون وأظهروا استياءهم من " الاستشهاد " الذي كان يطلبه المتطرفون.

والذي هو في حقيقة الحال نوع من الانتحار الذي حرمه الدين المسيحي. وقد عقد في عام ٢٣٧ هـ/٨٥٢ م مجمع ديني في قرطبة يضم كل أساقفة الأندلس برئاسة مطران إشبيلية، ومثل الأمير عبد الرحمن فيه أحد المستعربين المسيحيين، وهو غومز بن أنطونيان، الذي كان كاتباً عند الأمير. فعرض غومز حالة المنتحرين على المجمع ونتائجها السلبية على كل المستعربين في البلاد. وقد وافق جميع أعضاء المجمع -باستثناء أسقف قرطبة الذي لزم جانب المتطرفين- على إصدار قرار استنكروا فيه حركة المسيحيين المتطرفين، وعدوها حركة مخالفة لتعاليم الكنيسة. ولكن هذه الفتنة الدينية،

<<  <   >  >>