للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المدينة الأخيرة مبعثرة في بلدان أخرى، وتم التعرف عليها بفضل ما عليها من كتابات، بينما لم يبق شيء من مأثر الزاهرة ... سوى حوض من المرمر، مكسور وغير كامل، وصل إلى إشبيلية ويحفظ الآن في المتحف الوطني بمدريد ... كما أنه لم يبق من الزاهرة فيما بعد أي صدى في التقاليد المحلية، لذا اختلف في تحديد مكانها (٩٩).

مات المنصور ابن أبي عامر في رمضان سنة ٣٩٢ هـ وهو ابن خمس وستين سنة (١٠٠) بعد أن تولى تدبير الأمر فترة تقارب خمساً وعشرين سنة، اختصر فيها منجزات عهود، فقد كان عبقرية فذة تمثل ذروة النبوغ الشعبي والطموح الفردي (١٠١) خرج من صفوف الطبقة الوسطى " وشق طريقه بساعده وهمته إلى السلطان والرئاسة ولم تسعفه في ذلك نشأة ملوكية، أو انقلاب عنيف، ولم يكن عزمه في بلوغ ذلك أقل شأناً من تألق طالعه، وقد وصل المنصور إلى مرتبة من السلطان والقوة لم يصل إليها أحد قبله من أعاظم أمراء الأندلس حتى ولا عبد الرحمن الناصر نفسه، ويمكننا أن نقول أنه إذا كان عهد الناصر ألمع صفحة في تاريخ الأندلس، من النواحي السياسية والحضارية فإن عهد المنصور لا يقل عنه لمعاناً وتألقاً بل ربما امتاز على عهد الناصر بما أحرزته خلاله الدولة العربية من تفوق عظيم في السلطان والقوى العسكرية في شبه الجزيرة الإسبانية.

فقد استطاعت الممالك الإسبانية الشمالية في عهد الناصر، أن تنتهز فرصة الفتن الداخلية بالأندلس، وأن توطد قواها العسكرية، وأن تغزو الأندلس غير مرة غزوات مخربة، وقد لقي الناصر على يد النصارى غير هزيمة فادحة، أما في عهد المنصور، فقد انتهت الممالك الإسبانية إلى حالة يرثى لها من التفكك والضعف، واستمرت زهاء ثلث قرن تتلقى ضربات المسلمين الساحقة المتوالية، وقد وصل المنصور في غزواته في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل " (١٠٢). وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان المنصور جزعاً على مستقبل دولته التي بناها بالطموح والإرادة القوية، وإدراك أنها لن تعيش طويلاً بعد رحيله ذلك أن حيوية الدولة وديمومتها ارتبطت بشخصه ارتباطاً وثيقاً صعب على خلفائه مجاراة الأمور بنفس السياسة والأسلوب.

فعلى الرغم من حزم خليفته عبد الملك الملقب بالمظفر واتباعه في معظم الأمور


(٩٩) أحمد بدر: ١٥٦.
(١٠٠) ابن عذاري: ٢/ ٣٠١ " وعمره خمس وستون سنة وعشرة أشهر ".
(١٠١) عنان: دول الإسلام: ٢/ ٥٦٨.
(١٠٢) عنان: ٢/ ٥٦٨.

<<  <   >  >>