والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح بي أمام غلوة السحر, فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا, ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده علي, وبعد مراميه وآماده, صحة ما وفقوا لتقديمه منه, ولطف ما أسعدوا به, وفرق لهم عنه, ويضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى, فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفيًا من الله سبحانه وتعالى, وأنها وحي. ثم أقول في هذا ضد هذا: إنه كما وقع لأصحابنا ولنا, وتنبهوا وتنبهنا على تأول هذه الحكمة الرائعة الباهرة, كذلك لا ينكر أن يكون الله تعالى, قد خلق من قبلنا - وأن بعد مداه عنا من كان ألطف منا أذهانًا, وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا, فأقف بين تين الخلتين حسيرًا, وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا, وان خطر خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به. قلت: فحاصل كلامه أولًا وآخرًا يرجع إلى ثلاثة أقوال: التوقيف, وهو الذي رواه عن شيخه أبي علي الفارسي مستدلًا بالآية, والمواضعة والتواطؤ وهو الذي نسبه لأهل النظر في أول كلامه, واستدل في الأثناء بما أطال فيه الكلام بلا طائل, وتأول الآية بما مر من أن معنى علمه: قدره على وضعها, ونقل عن قوم أنه: كان يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا ... الخ. وعن آخرين أن أصل اللغات كلها من الأصوات المسموعات كدوي الريح ... الخ. واستحسن هذا الأخير, قال: إنه وجه صالح ومذهب متقبل, ثم مال للتوقيف, وأيده بالأثر, وجزم بأنها من عند الله, ثم غلبه ما لديه مما لا اعتماد عليه, فاستنبط قولًا ثالثًا واعتمده, زاعمًا أنه الذي ترجح عنده في الوقت, وهو الوقف عن القول بكل منهما, وأنه لا يدري ذلك لعدم دليل قاطع وبرهان ساطع, فأنت تراه كيف ينتقل من تخير إلى تحير, ومن ترجيح دليل إلى بحث في تعليل.