للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن استبعد دعاءك له اعتقد كَذِبَك ومداهَنَتَك له، وطَمِعَ منك في غيرها، وزالت من قلبه هيبَتُه لك في الله، وأوشك أن تنالك منه مضرَّةٌ؛ لسقوطك من عينه، ويجترئ مع ذلك على المظالم، قائلًا: الناس سواسية، هذا الذي يُقَال صالحٌ يكذب ويُدَاهِن الظَّلَمَة! فلو استطاع الظُّلمَ لَظَلَم!

وإذا تَنَبَّه لاحتمال كلامك التَّورية لَمْ تأمن أنْ يَحْمِل قولَك: "دعوتُ لك" على "دعوتُ عليك"، يقول: كأنَّه أراد "دعوت لأجلك" أي: دعوت الله تعالى أن يريح الناس من شَرِّكَ، أو نحو ذلك.

والحاصل أن الكذب لا يخلو عن المفاسد، ولكن إذا تعيَّن طريقًا لدفع مفسدةٍ عظيمةٍ ــ كالقتل ظلمًا ــ جاز، على قاعدة تعارض المفسدتين.

والمنقول من هذا إنَّما هو في التَّورية، كقول إبراهيم لزوجته: هي أختي؛ لعِلْمِه أنه لو قال: زوجتي لقتلوه.

وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: ٨٩]؛ لأنَّه أراد أن يتوصَّل إلى تكسير أصنامهم، وفي ذلك دفع مفسدة عظيمة.

وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: ٦٣]؛ لأنّه أراد أن يتوصَّل بذلك إلى إنقاذهم من الشرك، والشرك أعظم المفاسد، مع أنَّهم إذا خَلَصُوا من الشرك خَلَصَ هو من القتل، وظنِّي أنَّ هذه كلَّها كانت قبل أن يُنَبَّأَ إبراهيمُ عليه السَّلام، كما قرَّرْتُه في "رسالة العبادة".

وكلٌّ من هذه الثلاث فيها تورية قريبة، والحال التي كان عليها شِبْه قرينة تشكِّك في حَمْل كلامه على ظاهره، فيصير بها الكلام كالمُجْمَل.

<<  <   >  >>