ثم قال بعضهم: إنَّ المقصود من الشريعة هو إصلاح حال البشر حتى يمتثلوا الأمر ويجتنبوا النَّهي، وإنَّما ضمَّت من العقائد ما يتوقَّف ذلك عليه، وأمَّا ما عدا ذلك فإنها جاءت بما يوافق اعتقاد غالب الناس وإن كان خطأً في
نفسه! وإنَّما فَعَلَت ذلك لئلَّا تصدَّ النّاس عن قبول الشريعة إذا جاءت بما يُخالف عقائدهم!
قالوا: فجاءت بأنَّ الله عزَّ وجلَّ مُستوٍ على عرشه فوق سماواته، وأنَّ له وجهًا ويدًا وقدمًا، وغير ذلك ممَّا هو عندهم من خواصِّ الأجسام!
قالوا: لأنَّ غالب النَّاس ــ بل كلَّهم إلَّا من تغلغل في المعقولات ــ لا يُصدِّقون بموجودٍ قائمٍ بذاته، ليس بجسمٍ، ولا في جهةٍ!
وعند هؤلاء أنَّ عامَّة الصَّحابة والتَّابعين وغالب الأمَّة مخطئون في اعتقادهم، يلزمهم القول بحدوث الحقِّ عزَّ وجلَّ ونقصه تبارك وتعالى، ولكنَّ الشريعة أقرَّتهم على ذلك؛ فليسوا بكفَّارٍ، ولا فُسَّاقٍ في حكم الشَّرع.
وأنت ترى أنَّ هؤلاء أدنى من المكابرين إلى العقل في بادئ الرَّأي، ولكنَّهم أخبث منهم؛ فإنَّهم يقولون: لا ريب أنَّ آيات الصِّفات وأحاديثها ظاهرةٌ في الباطل، ولم تكن هناك قرينةٌ كافيةٌ لصَرْفها عن ذلك، وعامَّة الصَّحابة والتابعين وغالب مَنْ بَعْدَهم فَهِموا منها المعنى الباطل، وهي في نفسها مسوقة سياقًا يُفْهَم منه المعنى الباطل، وذلك كذبٌ لا محالة، ولكنَّ الكذب لإصلاح النّاس حَسَنٌ!
فجَوَّز هؤلاء ــ بل نسبوا ــ الكذب إلى الله وكتابه ورسوله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}[الكهف: ٥].