للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقولهم بعد ذلك: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: ٨] ظاهرٌ في أنَّ المُتَشابه مَظِنَّة لأنْ يكون سبب الزَّيغ.

ولو كانوا قد علموا تأويلَه لكان بالنَّظر إليهم كالمُحْكم.

وتعليل اتِّباع الزَّائغين للمتشابه بقوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ظاهرٌ في أنّ ابتغاء تأويله زيغٌ؛ إذ لو كان الزَّيغ إنَّما هو في اتِّباعه ابتغاء الفتنة لَمَا كان لقوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} معنى!

فإن قيل: سَلَّمنا أنَّ ابتغاء تأويله زَيغٌ، ولكن لغير الراسخين.

قلتُ: الرُّسوخ في العِلْم أمرٌ خفيٌّ، ليس هو كثرة العِلْم، فكم مِن رجلٍ كثير العِلْم ليس براسخٍ، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: ١٧٥، ١٧٦]، وقال عزَّ وجلَّ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: ٢٣].

وفي الحديث: "إنَّ أخوف ما أخاف على أمّتي كلُّ منافقٍ عليم اللِّسان" (١).


(١) أخرجه أحمد (١/ ٢٢، ٤٤)، وعبد بن حميد (المنتخب: ١١)، والبزَّار (١/ ٤٣٤)، وغيرهم، من طرقٍ عن ميمون الكردي عن أبي عثمان النَّهدي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (١/ ١٨٧): "رجاله موثقون" وصحَّح إسناده الألباني في "الصحيحة" (١٠١٣).
وللحديث طرقٌ أخرى اختلف في رفعه ووقفه على عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في "العِلل" (٢/ ٢٤٦): "والموقوف أشْبَه بالصَّواب".
وله شاهد من حديث عمران رضي الله عنه مرفوعًا، وَهَّمَه الدارقطني في "العِلل" (٢/ ١٧٠). ومن حديث عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصح، ويُنظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (١/ ١٨٧).
والحاصل في هذه الرواية كما قال الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" (ص ٦٦٣): "هي صحيحة عن عمر، وفي رفع الحديث نظر".

<<  <   >  >>