للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقول: وقد جرَّبنا أنَّ مَن كلَّف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يُخيَّل إليه أنَّه يُدْرِك ذلك، فكم مرَّة تَرَاءَى النَّاس الهلال فتَرَاءَيتُه معهم، فإذا حدَّقتُ وأمعنتُ في النَّظر يُخيَّل إليَّ أنِّي قد رأيته، ولكنَّها خَطْفةٌ لا تثبت، ثم أيأس من ذلك الموضع، فأنظر إلى موضعٍ آخر، فيخيَّل إليَّ مثل ذلك؛ فعلمتُ أنَّ تلك الخَطْفة هي صورة خيالية لما أتخيَّله؛ تبرز إلى العيان لقوة التَّخيل وكدِّ البصر.

فكثيرًا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كُلِّف إدراك ما لا يُدْرك، والفرق أنَّ خطأ البَصَر يتنبَّه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ نفسه.

لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغصَّان بالماء اعتصاري (١) (٢)

وكثيرًا ما يُدرك العقل خطأ ما تصوَّره ولكنَّه لا ييأس، فلا يزال في أخذٍ وردٍّ إلى أن يكِلَّ ويَمَلَّ؛ ولا يَسْمحُ بذهاب تعبه سُدىً فيقنع بالشُّبهة التي وقف عندها، ومثله مثل المسافر يأبى أن ينزل ليستريح إلَّا في موضعٍ حسنٍ جميلٍ، وليس أمامه موضعٌ كذلك، فلا يزال كُلَّما أتى على موضعٍ لم يره على الشَّرط حتى يعقله التعب والإعياء؛ فينزل ويسلِّي نفسه ويُغالطها، يزعم أنَّ ذلك الموضع حسنٌ وجميلٌ.

وأنت إذا كنت قد وقفتَ على بعض الكتب المطوَّلة في الفلسفة وتدبَّرتها تحقَّقتَ هذا المعنى، ولا تكاد تجد شبهةً عقليةً قد قرَّرها أحدُهم


(١) في الأصل: "اعتصار".
(٢) البيت لعدي بن زيد العبادي في "ديوانه" (ص ٩٣). وهو كذلك منسوب إليه في: "الأغاني" (٢/ ١٠٦)، و"الحيوان" للجاحظ (٥/ ١٣٨، ٥٩٣)، وغيرهما.

<<  <   >  >>