للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] يعني: من الآيات الكثيرات الدالة على أمر الله عز وجل عباده بالتوحيد وقضى بمعنى: حكم، وكتب، وفرض، وألزم سبحانه وتعالى ألا تعبدوا إلا الله سبحانه وتعالى، وقالوا: بمعنى: وصاكم الله عز وجل ألا تعبدوا إلا إياه {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وعبر بالمصدر عن جملة تتضمن فعلاً وفاعلاً ومفعولاً مطلقاً.

{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:٢٣ - ٢٤] وهنا: بدأ بذكره سبحانه وبتوحيده وبأمره (قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فأول شيء هو عبادة الله سبحانه، {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:١٤] فتبدأ بالله سبحانه وتعالى فتشكره وتحمده سبحانه، ثم يثني بمن لهما الجميل عليك في وجودك في هذه الدنيا بعد الله سبحانه وتعالى وهما الوالدان، فقال سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:٨٣] أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً عظيماً، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} أي: الوالدان وهذه فيها قراءتان، قراءة حمزة والكسائي وخلف: (إما يبلغان عندك الكبر) يعني يبلغ الوالد وتبلغ الوالدة، والكبر هو كبر السن وتقدم العمر، {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} أي: أحد الوالدين لأنه قد يكون الآخر قد توفي (أو كلاهما) أي أن يكونا حيين جميعاً (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وفيها قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وحفص عن عاصم: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: (فلا تقل لهما أفَّ ولا تنهرهما) وبقية القراء: (فلا تقل لهما أفِّ ولا تنهرهما) ففيها أفٍّ وأفَّ وأفِّ، إذاً كلمة أف يحرم على الإنسان أن يقولها لأبيه وأمه، وبالقياس على ذلك فمن باب أولى لا تضربهما، لا تنهرهما أي: لا تؤذهما بقول فيه نهر: فلا تشتم ولا تسب، وكونه نهى عن أقل الأشياء التي تؤذي، فيه بيان أن ما هو أكثر من ذلك أشد تحذيراً {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:٢٣] أي: قولاً ليناً طيباً مهذباً فيه توقير للوالدين، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤] الجناح: الجانب، وقد يراد بالجناح، جناح الطائر، والإنسان جانبه جناحه وكأنه يقول: اخفض لهما جناح الذل، أي: جناحك الذليل، كأن الإنسان له جانبان، جانب عزيز وجانب ذليل، يقول: اخفض جناحك وتواضع لهما أو استعار ما للطائر من جناح فإن الطائر يأتي على أولاده فينصب جناحه ليحتضن أفراخه ويضمهم إليه، فكأنه يقول: كن مع والديك مثل الطائر في رحمته وحنانه على أولاده، فهنا: ((واخفض لهما جناح الذل)) يعني: كن ذليلاً معهما ليناً معهما، قال: ((من الرحمة)) يعني: من شدة الرحمة: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:٢٤]، يعني: ادع لهما أن يرحمهما الله عز وجل ((كما ربياني صغيراً))، كما تحننا عليك في الصغر وربياك فادع لهما في الكبر.

وقد احتاج الولد هنا تذكيراً من الله عز وجل ليدعو لوالديه، ولم يحتج الوالدان لمثل هذا التذكير فالرحمة والحنان موجودة في قلوبهما، إلا في أمر القتل الذي كان عليه أهل الجاهلية من قتل البنات فقد نزل التنصيص عليه في القرآن، وهنا استغنى بما وضع في قلوب الآباء على الأبناء من الرحمة والتحنن عن أن يوصيهم بذلك، والولد وهو صغير يتحنن عليه الأب والأم ويعطفان عليه ويحبانه، وعندما يكبر الابن يبدأ الأب ينزل للمنحنى العمري الذي يصير فيه كالطفل، والإنسان يبدأ صغيراً فيكبر ثم يبلغ أشده ثم يرجع صغيراً مرة أخرى، لكن فرق بين الصغر في أوله والصغر في آخره، فالصغير في الأول كان لا يعرف شيئاً وهو محبوب لأنه لا يعرف شيئاً، أما عندما يرد المرء إلى أرذل العمر فيكون هذا الشيء منه مبغوضاً، فاحتاج الإنسان أن يذكر: لا تنس عندما كنت صغيراً فالآن ارحم والديك وادع ربك سبحانه وتعالى أن يرحمهما كما ربياك صغيراً فيذكرك بالتربية وفضل الإنفاق عليك وفضل ما سهرا وتعبا عليك في الصغر.

وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى المنبر قال: آمين آمين آمين)، وهذه الرواية عن أنس رضي الله تعالى عنه، ورواية الترمذي عن أبي هريرة وصححه الشيخ الألباني يصعد درجة على المنبر ويقول آمين، والدرجة الثانية ويقول: آمين، والثالثة ويقول: آمين فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (آمين) وقالوا: يا رسول الله علام أمنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك)، و (رغم) أصلها من الرغام، والرغام التراب، والمعنى نزل أنفه في التراب من الذل، يعني أذل وأكره وقهر حتى صار أنفه في التراب، وهذا دعاء من جبريل على الإنسان الذي يذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلي عليه، والمعنى ألصقه الله عز وجل بالتراب على ذل منه، (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقال: آمين) صلى الله عليه وسلم، فالداعي هو جبريل والمؤمن هو النبي صلوات الله وسلامه عليه (ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج ولم يغفر له) شهر رمضان جائزة من رب العالمين سبحانه لعباده، ليتوب فيه العبد إلى الله عز وجل ويعمل عملاً صالحاً، حتى ينتهي شهر رمضان وقد غفر له، فإذا ذهب شهر رمضان وهو على ما هو عليه من الذنوب والمعاصي فهذا لا يستحق إلا أن يدعا عليه بالذل والرغام (ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين، قال: فقلت: آمين) فدعا على الإنسان الذي عنده أبوه شيخ كبير أو أمه عجوز كبيرة ومع ذلك لم يدخلاه الجنة بطاعتهما في المعروف وببرهما.

وروى الإمام أحمد والترمذي أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك والديه قال: أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنة) وفيه معنى الحديث السابق.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه -وهذا في الصحيحين- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) أكبر الكبائر، يعني: الكبائر منها ما هو كبير ومنها ما هو أكبر من الكبير، ومن الكبار المهلكات الموبقات لصاحبها: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وأصل العقوق من عق، وعق بمعنى قطع وقطيعة الوالدين تكون بالشتم وبالسب وبالهجر لهما وعدم طاعتهما بالمعروف قال: (وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) يعني: في قول الزور وشهادة الزور.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين)، وهذا حديث صحيح رواه الترمذي ورواه الحاكم عن ابن عمرو ورواه البزار عن ابن عمر، وفيه أنك إذا أرضيت والديك سيرضى عنك الله سبحانه وتعالى، وإرضاء الوالدين يكون في المعروف وليس في المنكر أبداً، فإذا أمرا بالمنكر وبالمعصية وبالشرك قال: {فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥] أي: لا تؤذهما ولكن لا تطعهما في معصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه.

وعن أبي أسيد الساعدي قال: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة -بكسر اللام وهم بطن من الخزرج- قال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما من بعدهما -أو بعد موتهما-؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، الصلاة عليهما -بمعنى الدعاء- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) لكن الحديث ضعيف، والحديث رواه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده أسيد بن علي وأبوه ولم يوثقهما سوى ابن حبان فالإسناد ضعيف.

لكن العمل على ذلك وأن من بر الوالدين بعد الوفاة أن تبر من كانا يصلانه، وجاء في ذلك حديث عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: من بر الوالدين في الحياة: الطاعة لهما، والإنفاق عليهما، والإحسان إليهما، وعدم قول أف، وعدم النهر.

وبعد الوفاة: أن تتصدق عنهما، وتستغفر لهما، وتدعو لهما وتنفذ عهدهما من بعدهما إذا كان لهما عهد لفلان من الناس أو وعدوا موعدة فافعل ما وعدا به.

(وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) يعن

<<  <  ج: ص:  >  >>