للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)

كذلك قول الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١]، الحبر: هو العالم، والراهب: هو العابد، فهؤلاء أهل الكتاب اتخذوا علماءهم مشرعين يشرعون لهم مع الله سبحانه وتعالى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم كذلك قدوة يقتدون بهم فيما حرم الله فيحلونه، وفيما أحل الله فيحرمونه، فاتبعوهم في ذلك وصارت لهم ديانة، غيروا الملة والدين، كما فعل بولس في الملة النصرانية فأحل لهم كل شيء حرمه عليهم المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلا أشياء قليلة، فاتبعوه على ذلك وجعلوه رسولاً من رسل الله سبحانه وتعالى وكذبوا في ذلك، فاتبعوه وقد أحل لهم ما حرم عليهم المسيح صلوات الله وسلامه عليه.

كذلك اليهود اتبعوا كبراءهم من أحلوا لهم ما حرم الله سبحانه، فإذا بهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم يعترفون بأنهم حرفوا في التوراة حين سألهم عن الرجم قائلاً لهم: (أما تجدون في كتابكم الرجم؟ فقالوا: لا)، وأشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم وأقسم عليهم بالله سبحانه، وجاء قارئهم يقرأ التوراة ووضع يده على آية الرجم حتى لا يقرأها، وهؤلاء هم اليهود الكذابون لعنة الله عليهم، فلما قال له أحد الجالسين: ارفع يدك، فرفع يده وقرأ آية الرجم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشهد الله سبحانه أنه أول من أقام ما أمر الله عز وجل به، وقد بدله أهل الكتاب.

فإن أهل الكتاب حرفوا كتب الله باتباعهم الكبراء الذين فيهم، والبعض منهم برؤوسهم وبأهوائهم قالوا: إن فينا قبائل قوية وشريفة وفينا قبائل قليلة وضعيفة، فالشريف إذا سرق تركوه، والضعيف إذا سرق أقاموا عليه الحد، وأرادوا أن يضعوا حكماً من دون الله، فقالوا: نلغي الرجم الذي قاله الله ونسخم وجوههم، وننكسهم على دابة، ونفضحهم بين الناس، فهذا الذي شرعوه من دون الله سبحانه وتعالى، واتفقوا عليه، وكفروا بالله العظيم سبحانه، وبدلوا شرع الله واستحلوا ما حرم سبحانه وتعالى.

كذلك قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] فأهل الكتاب كان كتب عليهم الصيام كما كتب علينا نحن فإذا بهم يبدلونه ويحرفونه، يمرض أحد أبناء ملوكهم فينذر الملك لله سبحانه أنه إذا شفى الله ابنه أن يزيد في هذا الصوم، فزاد في الصيام أياماً؛ بسبب أن الله شفى ابنه، ويشرع لهم على ذلك بدلاً من أن يكون شهراً واحداً يقول: اجعلوه أربعين يوماً، كذلك إذا جاء الصيام في وقت الصيف، يجعلونه في الشهور المعتدلة في السنة ويجعلونه ستين يوماً، ويأكلون ويشربون في النهار، ويحرمون ما فيه الروح فقط دون غيره، فيفعلون ذلك معتقدين أن من حقهم أن يحلوا وأن يحرموا مع الله سبحانه، فكفروا بهذا الشيء، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] يعني: مشرعين؛ لأن من صفات ربوبية الخالق سبحانه وتعالى أنه رب يفعل ويأمر، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] سبحانه وتعالى، أمره: افعل ولا تفعل، أمره: التشريع، أمره: كن فيكون، فمن جعل لأحد سوى الله سبحانه أن يأمر ويشرع فقد جعله إلهاً من دون الله وجعله رباً من دون الرب العظيم سبحانه وتعالى.

ولذلك عدي بن حاتم لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع هذه الآية: يا رسول الله لسنا نعبدهم؟ فقال: (أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى) وأقر واعترف بأنهم يفعلون ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتلك عبادتهم)، إذاً: عبادة أهل الكتاب لأحبارهم ورهبانهم لم تكن بصلاة وصيام وركوع وسجود، وإنما كانت بطاعة في مخالفة أمر الله سبحانه، وباعتقاد أن هؤلاء يملكون أن يشرعوا من دون الله سبحانه وتعالى.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الله سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١] (وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين)، هذه القسمة تفهم القارئ ما الذي يقصد بهذه الآية، ومن يلحق بأمثال هؤلاء ومن الذي يخرج من الدين، ومن الذي لا يخرج منه، يقول: يكونون على وجهين، أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله)، يعني: الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله وهم عالمون بأنهم يفعلون خلاف ما قضى الله عز وجل به، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، إذا فعل الكبراء ذلك واتبعهم أشياعهم عليه معتقدين أنهم يملكون ذلك، وهو من حقهم ذلك.

قال: (مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يصلوا ويسجدوا لهم، أي: ليس شرطاً أنه يصلي أو يسجد له، ولكن يعتقد أنه يملك أن يحل وأن يحرم، فالله يقول: هذا حرام، وهذا الإنسان يقول: لا، هذا حلال، الله يقول: هذا حلال، وهذا الإنسان يقول: هذا حرام، ومن اعتقد أن هذا يملك ذلك فقد كفر، ومن فعل أيضًا فقد كفر مع علمه بأنه خلاف ما قضى الله عز وجل به.

يقول: (الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله) معناه: المعصية، وليس هو الكفر الذي يخرج الإنسان من الملة، فهو كفر دون كفر، إذْ علموا أن الله حرم ذلك وعلم هؤلاء المتبعون أنه ليس من حق أحد أن يحل وأن يحرم إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن لما وجدوا من أحل الشيء اتبعوه في ذلك، ليس لأنهم يملكون ذلك، ولا لأن الله يريد ذلك، ولا لأنه شرعه، ولا لأن هؤلاء يشرعون مع الله، فهم يعرفون أن هؤلاء بشر ولكن اتبعوهم حباً في المعصية، فهؤلاء هم الفريق الثاني، الذين لم يعتقدوا تحليل ما حرم الله، ولم يعتقدوا أن إنساناً يملك أن يحل ما حرم الله سبحانه ولا أن يحرم ما أحل الله.

ويقول شيخ الإسلام: (أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ).

إذاً: على ذلك فهؤلاء ليسوا كفاراً ولكنهم عصاة، اتبعوا اتباعاً للشهوة، لا لأن هؤلاء يملكون أن يحلوا وأن يحرموا مع الله سبحانه وتعالى، قال: (فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إنما الطاعة في المعروف)).

<<  <  ج: ص:  >  >>