للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أنواع الظلم وتعريف كل نوع وما يلحق بكل نوع من جزاء]

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:٣٢].

أورثنا الكتاب: يعني: الكتب السماوية ورثها من خلفوا الأنبياء بعدهم، ((فَمِنْهُمْ)) أي: فمن هؤلاء الذين ورثوا الكتاب: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢] فصاروا ثلاثة أصناف، منهم: الذي يظلم نفسه؛ إما بالظلم الأكبر والشرك بالله، والخروج من الدين وإما بالظلم الأصغر، فمنهم ظالم لنفسه فغلبت سيئاته حسناته.

{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:٣٢] أي: له حسنات بقدر السيئات.

{وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:٣٢] هذا الذي غلبت حسناته سيئاته، فقال سبحانه: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:٣٢].

وهذا كلام شيخ الإسلام، حيث يقول: وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه، بذنب إذا لم يتب.

أي: الذي أذنب وتاب فإن التوبة تجب ما قبلها، لكن إذا أذنب ولم يتب فهو في خطر المشيئة، إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه بهذا الذي وقع فيه، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].

فهنا في باب الوعد: عندما تعمل قدر وزن ذرة من الخير، يعطيك الله عز وجل ثوابها.

وفي باب الوعيد: من يعمل مثقال وزن ذرة (نملة) من الشر فالله يرى هذا الشيء ويحاسب عليه، إلا أن يعفو الله سبحانه وتعالى ويتكرم بالعفو عن عباده.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء -أي: الشدة-؟ فذلك ما تجزون به) الحديث رواه أحمد في مسنده وإسناده فيه أبو بكر بن أبي زهير لم يوثقه إلا ابن حبان فقط وشيخه مجهول.

لكن الحديث معناه صحيح، أن الله عز وجل يكفر عن المؤمنين بما يبتليهم به من مصائب، حتى الشوكة يشاكها يكون له فيها أجر، وقد ثبت هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: (لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها).

تنكب الشيء بمعنى: سقط أو وقع على الأرض وجرح بسبب ذلك، فالله عز وجل يؤجره على ذلك؛ فالحديث فيه دليل على أن الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] أي: إلا أن يعفو الله سبحانه ويكفر عن ذلك عندما يكون العبد كثير المصائب في الدنيا.

قال: فإنه يجزى بسيئاته في الدنيا بمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام، والاهتداء التام.

فالإنسان يظلم نفسه بأن يشرك بالله سبحانه، فإن الله خلقه ورزقه وعلمه وأرشده لتوحيده فإذا به يشرك بالله في العبادة؛ فهذا ظلم أكبر.

وظلم آخر: ظلم العباد، بأن يسرق مال غيره، ويأكل مال غيره بغصب ونحوه، ويفعل الأشياء التي يؤذي بها الغير.

قال: وظلمه لنفسه بما دون الشرك.

وظلم العبد لنفسه: الوقوع في المحرمات التي هي دون الشرك، فالذي ينجو من هذه الثلاث: من الشرك بالله، ومن ظلمه للعباد، ومن ظلمه لنفسه بما دون الشرك، له الأمن التام، والاهتداء التام.

نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا الأمن التام، والاهتداء التام.

قال: ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق.

يعني: أن له من الأمن وله من الاهتداء ما هو داخل في ذلك، وأنه لا بد من دخول الجنة سواءً عذب قبل ذلك بعذاب أو بتأخير عن دخولها، ولكن في النهاية سيؤمنه الله عز وجل، ويدخله جنته.

قال: وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم، الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلم نفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام.

هذا كلام عظيم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يبين لنا أنه وإن فسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بأن المقصود بالظلم: الشرك، فليس معناه: أن الإنسان الذي لا يشرك، له أن يظلم ويعمل السوء ثم يقول: أنا آمن بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم! لأنا نقول له: لقد جاءت نصوص أخرى كثيرة تبين أنك تجازى على الشيء الذي تظلم به نفسك أو تظلم به غيرك دون الشرك بالله سبحانه وتعالى.

فالإنسان يظلم نفسه بالمعاصي، ويظلم نفسه بأخذ حقوق الغير؛ لذا فإنه إذا وقع في ذلك فتاب تاب الله عز وجل عليه، وكان له الأمن والاهتداء، وإن لم يتب إلى الله كان في خطر المشيئة، ولكن توحيده ينفعه يوماً من الدهر، إذ ليس له الأمن التام، وإنما له الأمن المطلق، ففرق بين أن نقول: الاهتداء التام والأمن التام، وأن نقول: له أمن وله اهتداء فيهديه الله عز وجل يوماً من الدهر ويؤمنه وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه.

يقول شيخ الإسلام: (فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذان يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>