فاستغربت جدّاً أن أرى في هذه المكان صورة إمبراطور ألمانيا ولا أرى صورة ملك البلاد وسلطانها. وليس موضع الغرابة من هذا إلا أنّ القوم مسلمون من حكومة سلطانها مسلم، وهم مع ذلك يحتفلون بصورة غير سلطانهم ويعلّقونها على جدار ذلك القشلاق، فلم يسعني حينئذٍ غير أن أسأل جناب القومندان لماذا وجدت هنا هذه الصورة دون صورة السلطان. فقال إنّ جلالة الإمبراطور، حينما ساح سياحته في البلاد الشامية وجاء إلى بيروت، تخيّر منزله في تلك الثكنة حيث أعدّ له مكان خاص أقام فيه مدّة وجوده في هذه المدينة. وقد منح جلالته المكان هذه الصورة لتكون تذكاراً له في ذلك القشقلاق. هذا وأقول لعلّ جلالة الإمبراطور قد راق لعينيه ضخامة المحل وفخامة شأنه فلم يشأ أن يبارحه بذاته ويفارقه بجسمه حتّى يحلّ فيه بصورته ورسمه. ثمّ بارحنا جناب القومندان بعد أن ودّعنا منه ومن رجاله بمثل ما قوبلنا به حيث قصدنا إلى الفندق. وقد كان جاء ميعاد الغداء الّذي ما كدنا نستريح بعده حتّى وفد إلينا جمهور كبير من المسافرين بقصد زيارتنا.
[حديث مع بعض التلاميذ]
وكان بين أولئك الوافدين بعض طلبة المصريين في كلية الأمريكان ومدرسة اليسوعيّين، فاستقبلناهم بما يليق بهم من الحفاوة والإكرام. وقد مكثوا في مجلسنا زمناً غير قليل كان حديثنا في أثنائه يدور غالباً على نظام التدريس والتعليم في المدارس والكليّات النظامية، وكنت أشجّعهم على طلب العلم، وأحثّهم على المثابرة والجدّ في تحصيل الواجبات المدرسيّة على شريطة أن يقرنوا خطاهم في سبيل تلك الغاية الشريفة بالنيّة الصحيحة والفكرة الصالحة. وهنا قلت لهم: إنّ طلب العلم، وإن كان في حدّ ذاته، هو أسنى مطالب الإنسان وأسمى رغائبه في تلك الحياة بل العلم هو وحده الأساس الّذي لا اعتماد للسعادة إلا عليه والأصل الّذي لا
اِستناد للفضيلة إلا إليه. غير أنّه لمّا كانت منافعه متعدّدة وفوائده متفاوتة كانت نوايا الناس إليه مختلفة ومقاصدهم نحوه متباينة. فمن فريق يطمح إلى تحصيل الأعراض الزائلة والأغراض السافلة، ومن فريق آخر يطمع في تكميل عقله وتثقيف فكره إلى