هذا، وقد كان أكثر ما رأيناه من الحدائق والبساتين في المدينة وضواحيها مغروساً بشجر التوت والبرتقال الّذي يرسل مع عليل النسيم عبير زهره فيشفي الجسم السقيم. وإنّه لا يكاد الإنسان يصرف النظر عن هذا السهل وما فيه من الحدائق
والجنان، حتّى يرفعه إلى جبال لبنان فيرى جبلي صنين وكنيسة متلازمين تلازم الفرقدين، وظاهرين من بين الجبال ظهور النيرين، ذلك لما امتازا به من زيادة العلوّ والطول، حتّى كأنّهما وقد شمخا بأنفهما إلى السماك يطمعان أن يسكنا حيث تسكن وحتّى ترى السحاب على اِرتفاع شأنه وبعد مكانه لا يمرّ عليهما إلا فرقاً مذعوراً وخائفاً مقهورا على أنّهما لا يسمحان له بالمرور إلا إذا ترك على قمتيهما من ذلك الثلج الطبيعي ما يشبه العمامة البيضاء على رأس الشيخ الوقور:
يَحسبهُ الجاهلُ ما لَم يعلم ... شَيخاً على كرسيّه معلما
أمّا هواء بيروت فإنّه معتدل جدّاً في زمان الشتاء، وحرّ شديد في فصل الصيف. ولكن يقال إنّ اتّصال البلد بالبحر يلطّف كثيراً من هوائها في مدّة الحرّ على أنّه يقال أنّ معظم السكّان من طبقة المتوسّطين في هذه المدينة يصعدون على لبنان لقضاء الصيف هناك، لما قد امتاز به هذا الجبل من جودة الهواء وعذوبة الماء وجمال المنظر.
وأمّا مياه المدينة، فقد بلغني من بعض القوم أنّها كانت في الزمن السابق غير صالحة للشرب، إذ كانت عفنة رديئة وكان ينشأ عنها بهذا السبب أمراض كثيرة وأوبئة شتّى. وقد عنيت الحكومة العثمانية بتلافي ذلك الخطر الخطير منذ خمس وثلاثين سنة، فجلبت إليها ماء الشرب من نهري الكلب وبيروت اللّذين ينبجسان من السفح الغربي من لبنان، حتّى أصبح أهل المدينة وضواحيها يتمتّعون بشرب الماء النقيّ الطاهر.
وأما مدارس المدينة فكثيرة، إذ تبلغ نحو مائة مدرسة، للمسيحيين منها سبعون مدرسة: أربعون للبنين وثلاثون للبنات، وللمسلمين ثلاثون مدرسة: خمس وعشرون للذكور وخمس فقط للإناث. ومن ثم كان التفاوت عظيماً بين المتعلّمين من أبناء