الجمال والكمال. أمّا نحن فقد شكرنا جميع المودّعين، خصوصاً دولة الوالي الّذي قام لنا بما يقتضيه لطفه ومعروفه من الإكرام والحفاوة.
سار القطار على بركة الله وعونه من تلك المحطّة الصغيرة، وقد كنّا أخذنا مجالسنا في الصالون الخاص الّذي كانت أعدّته لنا الشركة. وكان الخطّ الحديدي من مبدأ قيامنا إلى مدينة دمشق من الخطوط الضيّقة. وكانت القاطرة التي تسير بنا في هذا الطريق تمتاز عن القاطرات المعروفة في جميع الخطوط بأن لها عجلة زائدة في وسطها من الباطن تشتبك بقضيب موضوع بحذائها، عندما يشرع القطار في الصعود وذلك لحفظ توازنها في المنحدرات، ثمّ ترفع هذه العجلة عندما يأخذ في الهبوط وإذا استقام الطريق. وهي من نوع القاطرات الّتي ابتدعت في
الجهات الغربيّة لصعود الجبال. وقد كان الطريق معتدلاً على شاطئ البحر المتوسّط حتّى وصل القطار إلى محطة بيروت العمومية. ثم قام منها قاطعاً الطريق الحديدي الّذي يربط بين مدينتي بيروت وطرابلس الشام على قنطرة فوقه، ثمّ اتّجه إلى الجنوب على طول بيروت، وما زال سائراً في طريقه على شاطئ نهر بيروت حتّى اقترب من حديقة رستم باشا، وعندئذٍ كان قد وصل على الطريق القديم الّذي كان الناس يسافرون منه إلى دمشق بالعربات قبل إِنشاء السكك الحديديّة في تلك البلاد. وهناك كان يسير القطار على أرض خضراء نضرة مغروسة كلّها بالأعشاب والنباتات. وعلى يمين المسافر ويساره رياض فيحاء وغياض غنّاء، تفيض خلالها الجداول وتغرّد على أغصانها البلابل وتترسّل بين نواحيها نسمات الصبح النديّة بروائح الزهر الذكيّة. ولله كان النسيم العليل يسري في ذلك الجو الصاحي الجميل، ويمتزج بعبير الرياحين ويجري مع الأنفاس في صدور الناس، فيعمل في الأبدان عمل الطبيب المجرّب والحكيم المتدرّب، وله في الرؤوس مثل تأثير الكؤوس ممّا كان يتمنّى المسافر معه طول الإقامة تحت سماء هذا المراح الغضير والمناخ النضير الّذي يحسّ عنده الإنسان بانتعاش الجسم وخفّة الروح، ويدرك فيه سعادة الحياة ولذاذة العيش، ويجد منه بعد الضعف قوّة وبعد الكسل نشاطاً، كأنّما كان مسجوناً أفرج عنه أو مغمى عليه أفاق من غشيته. وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى: