للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خطاب الله للعقلاء في القرآن]

أسوق لك هنا بعض الأدلة من كتاب الله ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام وكذا من المعقول لأهمية العقل؛ لأنه لا يعقل أحد أن الله تبارك وتعالى قد أمر المجنون أو المعتوه الذي غاب عقله بالأوامر والنواهي، كما أن الله تبارك وتعالى إنما خاطبنا في كتابه وفي كلامه العظيم، وأمرنا أن ننظر في ملكوته، في سماواته وأرضه، في بحره وبره، وأن ننظر نعم الله علينا السابغة الظاهرة والباطنة حتى نتعرف عليه من واقع نظرنا وفكرنا وتدبرنا وتفكرنا في نعمائه وآلائه، هذا الذي يعبر عنه الناس بأننا نعرف الله تبارك وتعالى من واقع نعمه وآلائه، وإن كان أهل السنة والجماعة على أن الله تبارك وتعالى يعرف بالنقل لا بالعقل، وإن شئنا أن نجمع بين هذا وذاك نقول: الله تبارك وتعالى يعرف أولاً بالنقل الذي أمرنا به في كتابه، وأمرنا به نبيه عليه الصلاة والسلام في سنته، ثم هو سبحانه وتعالى يعرف بنعمه وآلائه، ثم هو يعرف كذلك بالعقل عند العقلاء.

فبم أمرنا الله عز وجل في كتابه؟ انظر إلى قوله في سورة البقرة التي هي أطول سور القرآن: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤]، هذه الآيات وهذه المعجزات والآلاء والدلائل إنما تدل على القادر عليها، الخالق لها، المصرف لأمرها، ولكن لا يتدبر هذه الآيات إلا العقلاء، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤]، وقال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} [الرعد:٢ - ٣] أي: بسطها: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} [الرعد:٣]، والرواسي هي الجبال التي تمسك الأرض أن تميد وأن تمور وأن تذوب فتبتلع من عليها، فالله عز وجل إنما بسط الأرض وجعل الجبال فيها كالأوتاد والمسامير التي تحفظها أن تمور فتبتلع ما فيها: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} [الرعد:٣]، من كل نوع من أنواع الثمار جعل زوجين اثنين ذكراً وأنثى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:٣]، وإنما الفكر محله القلب والعقل على السواء: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:٤]، ومعنى صنوان: أي: متحد في الأصل، الأرض واحدة، والماء الذي تسقى به الأرض واحد، فإذا زرعت رماناً وتيناً كان لهذا طعم ولذاك طعم، مع أن الأرض واحدة والماء واحد، ولكن سبحان ربي جعل لهذا طعماً وجعل للآخر طعماً آخر، قال: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:٤]، أنت تقول: أنا أحب الرمان ولا أحب التين، أحب المانجو ولا أحب الجوافة، والأرض واحدة والماء واحد والجو الذي نبت فيه جميع الثمر واحد، ومع هذا أنت تحب هذا ولا تحب ذاك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:٤]، فهذا خطاب للعقل كذلك، للدلالة على قدرة الله عز وجل.

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [النحل:١٠]، ماء السماء أعذب وأطيب ماء على الإطلاق، وهو حديث عهد بربه، كما قال عليه الصلاة والسلام، ولذلك كان المطر إذا نزل تعرض له النبي عليه الصلاة والسلام، وأدخله بين ثوبه وجلده، وهو يقول: (إنه حديث عهد بربه)، أطيب ماء هو ماء المطر، فالله عز وجل جعل لنا منه شراباً سائغاً، ومعنى سائغاً: عذباً زلالاً ولم يجعله ملحاً أجاجاً، تشربه وتستلذ به مع أنه نزل من السماء قد خالط الدخان والتراب وغير ذلك، ولكن الذي نقاه هو الله عز وجل.

قال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:١٠]، أي: وجعل منه بعد مخالطته في الأرض شجراً، ((فِيهِ تُسِيمُونَ) أي: ترعون فيه أنعامكم، ومنه الإبل السائمة، والسائمة من الإبل التي لا تربط في مكان معين، إنما تسيم

<<  <  ج: ص:  >  >>