ينْسب الصدْق إِلَى الْمخبر اخْتِيَارا، إِذْ لَو وَقع صدقه فِي الْقلب ضَرُورَة، كَمَا إِذا ادّعى النُّبُوَّة وَأظْهر المعجزة من غير أَن ينْسب الصدْق إِلَيْهِ اخْتِيَارا، لَا يُقَال فِي اللُّغَة إِنَّه صدقه؛ وَأَيْضًا التَّصْدِيق مَأْمُور بِهِ، فَيكون فعلا اختياريا
والتصديق وانقياد الْبَاطِن متلازما، فَلهَذَا يُقَال: أسلم فلَان، وَيُرَاد بِهِ آمن
والتصديق يكون فِي الإخبارات، والانقياد يكون فِي الْأَوَامِر والنواهي، فتبليغ الشَّرَائِع إِن كَانَ بِلَفْظ الْإِخْبَار فالإيمان يكون بالتصديق، وَإِن كَانَ بِالْأَمر وَالنَّهْي فالإيمان بانقياد الْبَاطِن
وَالْفرق بَين التَّصْدِيق والإيقان أَن التَّصْدِيق قد يكون مُؤَخرا عَن الإيقان، وَلَا يكون الإيقان مستلزما للتصديق، كَالَّذي شَاهد المعجزة فَيحصل لَهُ الْعلم اليقيني بِأَنَّهُ نَبِي، وَمَعَ ذَلِك لَا يصدقهُ؛ فاليقين الضَّرُورِيّ رُبمَا يحصل وَمَعَ ذَلِك لَا يحصل التَّصْدِيق الِاخْتِيَارِيّ
وَقد يكون التَّصْدِيق مقدما على الْيَقِين، كَمَا فِي أَحْوَال الْآخِرَة، فَإِنَّهُ لَا يحصل الْيَقِين بهَا إِلَّا بِأَن يصدق النَّبِي، فَعلم مِنْهُ أَن الْيَقِين لَيْسَ بِإِيمَان
[والتصديق والمعرفة ليسَا بمتحدين، فَإِن التَّصْدِيق عبارَة عَن ربط الْقلب بِأَنَّهُ على مَا علمه من إِخْبَار الْمخبر بِأَنَّهُ كَذَا، فَهَذَا الرَّبْط أَمر كسبي يثبت بِاخْتِيَار الْمُصدق وَأما الْمعرفَة فَلَيْسَتْ كَذَلِك، لحصولها بِدُونِ الِاخْتِيَار، كَمَا فِي وُقُوع بصر الْإِنْسَان على شَيْء بِدُونِ اخْتِيَاره، فَإِنَّهُ يحصل لَهُ معرفَة المبصر بِأَنَّهُ حجر أَو مدر أَو غير ذَلِك بِدُونِ ربط قلبه عَلَيْهِ بالاشتغال بِأَنَّهُ هُوَ، فالمعرفة لَيست بِإِيمَان، بِخِلَاف التَّصْدِيق، فَإِنَّهُ إِيمَان]
وَالْإِيمَان شرعا: هُوَ إِمَّا فعل الْقلب فَقَط، أَو اللِّسَان فَقَط، أَو فعلهمَا جَمِيعًا، أَو هما مَعَ سَائِر الْجَوَارِح
فعلي الأول: هُوَ إِمَّا التَّصْدِيق فَقَط، وَالْإِقْرَار لَيْسَ ركنا، بل شَرط لإجراء الْأَحْكَام الدُّنْيَوِيَّة، وَهُوَ مُخْتَار الماتريدي، وَقَالَ الإِمَام الرضي وفخر الْإِسْلَام: إِنَّه ركن أحط، فَإِنَّهُ قد يسْقط، [بِمَا فِيهِ شَائِبَة العرضية والتبعية]
أَو التَّصْدِيق بِشَرْط الْإِقْرَار، وَهُوَ مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَأَتْبَاعه وَلَا دلَالَة فِي قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم وشهدوا} على أَن الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ خَارج عَن حَقِيقَة الْإِيمَان المصطلح عِنْد أهل الشَّرْع، إِنَّمَا دلالتها على أَنه خَارج عَن الْإِيمَان بِمَعْنى التَّصْدِيق بِاللَّه وبرسوله، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يقبل النزاع
وَالرَّابِع: مَذْهَب الْمُحدثين، وَبَعض السّلف، والمعتزلة، والخوارج، وَفِيه إِشْكَال ظَاهر، وَجَوَابه أَن الْإِيمَان يُطلق على مَا هُوَ الأَصْل والأساس فِي دُخُول الْجنَّة، وَهُوَ التَّصْدِيق مَعَ الْإِقْرَار وعَلى مَا هُوَ الْكَامِل المنجي بِلَا خلاف، وَهُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار وَالْعَمَل وَفِي التَّصْدِيق الْمُجَرّد خلاف، فَعِنْدَ بعض مَشَايِخنَا منج، وَعند الْبَعْض لَا
وَالْمذهب عندنَا أَن الْإِيمَان فعل عبد بهداية الرب وتوفيقه، وَهُوَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ والتصديق بِالْقَلْبِ، والتصديق بِالْقَلْبِ هُوَ الرُّكْن الْأَعْظَم، وَالْإِقْرَار كالدليل عَلَيْهِ