للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومجد الجاحظ الأدبي مجد خالص من شوائب العصبية وتمويه السياسة وهو مجد بوأه صرحه الخالد: كفاءته الممتازة وثقافته النادرة وآثاره الفكرية والأدبية الممتعة، فقد عاش الجاحظ محرومًا من كل شيء إلا من مجد الأدب، وشهرة العلم، ولم تبوئه مواهبه مقاعد الوزارة التي كان التي كان يصعد إليها في عهده كثير من الكتاب، ولم تنله كفايته الأدبية منزلة في ديوان رسائل الدولة، ولما صدر فيه أيام المأمون لم يبق فيه غير ثلاثة أيام استقال بعدها منه، أو قل إنه حورب فيها من أجله حذرًا من أن يأفل به نجم الكتاب كما كان يرى سهل بن هارون، الإخفاق في الحياة العامة الذي منى به الجاحظ في عصره كان مما نعاه ابن شهيد عليه في رسالته "الزوابع والتوابع"، ومما جعله يخطئ من يذهب إلى تقديم الجاحظ على سهل بن هارون، وإن كان تحكيم التوفيق في الحياة في وزن الشخصيات وتقديرها ضلالًا وغبنًا.

ولكن ما سر هذا الإخفاق مع هذه الشهرة البعيدة والمجد الذائع؟ رأى ابن شهيد من قبل أن حرمان الجاحظ من شرف المنزلة بشرف الصنعة مع تقدم ابن الزيات وإبراهيم بن العباس إما؛ لأنه كان مقصرًا في الكتابة وجميع أدواتها أو؛ لأنه كأن ساقط الهمة أو؛ لأن دمامته وإفراط جحوظ عينيه قعد به عن الغايات المنشودة، ورأى أن نقص أدوات الكتابة عند الجاحظ شيء قد يكون غريبًا فذهب إلى أن أول أدوات الكتاب العقل وقد تجد عالماً غير عاقل.

أما أن الجاحظ ينقصه أداة -أيا كانت هذه الأداة- من أدوات الكتابة فذلك ما ترده الحقيقة المقررة، فعقل الجاحظ وفنه الأدبي وطبعه الموهوب أعظم من أن يتطرق إليه فيها شك وريب. وأما أن الجاحظ كان قريب الأمل غير بعيد الطموح، لا يتطلع إلى مجد ينشده أو جاه سلطان يناله، فذلك بعيد عن الجاحظ وحياته وروحه الوثاب الطموح. وأما أن دمامة الجاحظ كان لها أثر في هذا الإخفاق

<<  <  ج: ص:  >  >>