وكن في ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا قريبًا معروفًا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف أن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاص، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدراك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة من موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر والموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقًا مطبوعًا ولا محكمًا لسانك بصيرًا بما عليك أو مالك، عابك من أنت أقل عيبًا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.. فإن ابتليت بأن تتعاطى الصنعة وتتكلف القول ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصي علبك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر ودع بياض يومك أو سواد ليلك وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرق.
فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة على أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما