للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحكم في مكة:

مكة الكبرى لقاح:

كانت مكة في الجاهلية لقاحا١ لا تدين لملك، وتأبى أن ينفرد بالحكم فيها فرد متوج أيا كان هذا الفرد ولو كان من صفوة بنيها الأخيار، فلا تاج ولا صولجان ولا استئثار بالسلطان؛ ذلك لأن الحكم الفردي يخالف طبيعتها، ويجافي فطرة أبنائها، تستنكره تهامة أعظم الاستنكار, ومكة من تهامة بل هي قلب تهامة، يقول الجاحظ: "لم تزل مكة أمنا ولقاحا، لا تؤدي إتاوة، ولا تدين للملوك٢ ... ".

ولما طمع أحد القرشيين -وهو عثمان بن الحويرث- في أن يملك قريشا وأن يعقدوا له على رأسه التاج، وافقوا -بادئ ذي بدئ- لأنه تحيل عليهم، ولكنهم ما لبثوا حين استبانوا الرشد أن فاءوا إلى طبيعتهم فانتفضوا وثاروا، وقالوا له: "ما كان بتهامة ملك قط" وأقسموا باللات والعزى على ألا يكون ذلك أبدا. وفيما يلي نسجل حديث هذه الانتفاضة كما وردت في التاريخ: "خرج عثمان بن الحويرث وكان يطمع أن يملك قريشا, وكان من أظرف قريش وأعقلها، حتى قدم على قيصر وقد رأى موضع حاجتهم ومتجرهم من بلاده، فذكر له مكة ورغبه فيها, وقال: تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء، فملّكه عليهم وكتب له إليها, فلما قدم عليهم قال: يا قوم, إن قيصر من قد علمتم, أموالكم ببلاده, وما تصيبون من التجارة في كنفه, وقد ملكني عليكم، وإنما أنا ابن عمكم وواحد منكم، وإنما آخذ منكم الجراب من الأقط والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام, فلا تتجروا فيه ويقطع مرفقكم منه.


١ اللقاح: الذي لا يخضع لحكم أحد.
٢ الحيوان ج٣ ص١٤١, تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون.

<<  <   >  >>