للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقصد بكلمة بلوتقراطية أنها حكومة الأغنياء, وكان يشرف عليه البارزون من بني قصي. وهذه النزعة التجارية حتّمت عليهم أن يضربوا في جنبات الأرض شرقا وغربا وشاما ويمنا, وأن يحتكوا بالفرس والرومان وغيرهم من أصحاب الحضارات القديمة. ومن المرجح أنهم استفادوا من بعض الأنظمة الاجتماعية التي وجدوا عليها الروم وفارس حتى ظن بعض المؤرخين المحدثين أن دار الندوة نفسها ما هي إلا "اقتباس مغير مصغر عن مجامع الروم الدينية والمدنية"١. بيد أننا نعتقد أن هذه الدار قد انبثقت من صميم الروح الديمقراطية العربية التي كانت تسري في دم قصي وفي الملأ الذين عاشوا في بيئته وعصره، وأن استمرار هذا البرلمان القرشي وبقاءه حتى بزوغ فجر الإسلام يعتبر دليلا على أصالة هذه الروح وحب القرشيين للشورى وإيثارهم لرأي الجماعة على رأي الفرد، ولم تكن حكومة قريش هي حكومة الأغنياء التي يسيطر فيها أصحاب رءوس الأموال كما يصور ذلك بعض المستشرقين ومن لف لفهم من المؤرخين العرب، وإنما كانت حكومة ديمقراطية تستهدف إقامة العدالة الاجتماعية والقضاء على مشكلة الجوع والفقر ... ونحن لا ننكر أن فئات من قريش قد أثرت، وأن بعض هذه الفئات قد تولى السلطان، بيد أن هؤلاء لم يكونوا يستغلون نفوذهم للثراء الفاحش وامتصاص دم الشعب، وإنما كانوا يتخذون السبل المشروعة لجمع المال، ثم ينفقونه في وجوه البر والخير كإطعام الحجاج ومساعدة المعتفين والمحتاجين وتحمل الديات، فالمناصب الحكومية كانت مغارم عليهم لا مغانم لهم. بل إن اشتغالهم بالتجارة لم يكن إلا لتعففهم عن الغزو والسلب والنهب، حتى كان بعض القرشيين إذا أجدبوا ولم يجدوا ما يحفظ رمقهم ورمق أبنائهم ينتحون مكانا قصيا حتى يموتوا جوعا, مؤثرين الموت الشريف على الحياة التي يجللها عار السرقة والنهب.

ولم تكن رحلة الشتاء والصيف إلا ليخلقوا مجتمعا سويا لا يحس فيه أحد منهم بألم الجوع وذل الفقر، فالأغنياء والقادرون على العمل والكسب كانوا


١ أسواق العرب ١٠٩.

<<  <   >  >>