يعملون في التجارة صيفا إلى الشام وشتاء إلى اليمن حتى إذا انتعشت الحياة الاقتصادية وراتفعت نسبة الدخل القومي، تضاءلت نسبة الفقراء، فإذا بقي بعد ذلك فقير أو عاجز أو مستضعف كان له حظ في أموال الأغنياء، بل كانوا يخلطون فقيرهم بغنيهم، فإذا الكل على حد سواء.
هذه ظاهرة من ظواهر الرقي الاجتماعي الذي حققته حكومة قريش وبرلمانها "دار الندوة", تلك الدار التي لم يكن يدخلها للمشورة من غير بني قصي إلا من بلغ أربعين عاما، في حين كان يدخلها بنو قصي وحلفاؤهم جميعا.
وقد رأى بعض المؤرخين المحدثين في هذا التفريق لونا من الامتياز, فوسم قصيا مؤسس هذه الدار بأنه "كان أرستقراطيا"، ولكن يخفف من هذا النقد أن أولاد قصي كانوا من الكياسة والنضج وحسن التدبير للأمور في المكان الأرفع. أضف إلى ذلك أن دار الندوة كانت تستقبل كل حكيم مفوّه ولو لم يبلغ الأربعين, مما يدلنا على أن قصيا لم يكن يقصر عضوية دار الندوة على أبنائه وحدهم، وإنما كان يفتح أبوابها لكل نابغة محنك, فهو إذًا لم يكن يستهدف إلا قوة الشخصية والنضج العقلي.
أول رئيس للحكومة المكية:
ولقد كان زيد بن كلاب، زعيم النهضة القرشية، وسمي قصيا فيما بعد؛ لأنه نشأ بعيدا عن موطنه الأصلي "مكة"، فقد كان طفلا عندما مات أبوه كلاب, كما سبق في الفصل السابق، وسرعان ما تزوجت أمه فاطمة من رجل من بني عذرة في حدود الشام ونشأ هناك, ولما استوى عوده عاد إلى مكة وكان النفوذ الديني والمدني في أيدي الخزاعيين، فعزّ على قصي أن يرى الأجانب سادة على قومه القرشيين، فعقد العزم على أن ينتزع منهم السلطان, وتزوج من ابنة زعيم خزاعة "حليل بن حبشية". ولما مات حليل -وكان قد أوصى له بحكم مكة وولاية البيت من بعده كما تذكر بعض الروايات- شب الخلاف بين قصي وقريش، وبين خزاعة، وانضمت بكر لخزاعة كما انضمت كنانة وعذرة لقريش, وظلت الحرب بينهما سجالا حتى حكّموا فيما بينهم رجلا من كنانة, فقضى لقصي بولاية