ومع شدة تمسك العرب بعصبية الأبوة وتقديمها على عصبية الأمومة، فقد كانوا إلى جانب ذلك يرعون حق الأمومة، ويسمونها "عصبية الخئولة".
وأوضح شواهد على ذلك نصرة أهل المدينة للنبي؛ لأن أم النبي -صلى الله عليه وسلم- من بني النجار من الخزرج، وهي قبيلة قحطانية، وأبوه من قريش، وهي قبيلة عدنانية، فلما توفي والده التجأت أمه إلى أخواله بني النجار بالمدينة فأكرموا وفادتها، ولما بلغ أشده واستوى وآتاه الله العلم والحكمة واضطهدته قريش ومن تبعه، هاجر إلى المدينة في حماية أخواله وأتباعه؛ لأن خئولة بني النجار جعلت الخزرج كلهم أخواله، وكل الحوادث في المدينة تدل على أن بني النجار كانوا دائما في مقدمة المحامين عن الرسول وأتباعه بعد الهجرة.
ونذكر بعد ذلك أيضا من الحوادث، أن بني كلب انضمت إلى معاوية بن أبي سفيان حينما نهض للمطالبة بدم عثمان، ولعل أهم سبب في انضمامهم أن نائلة زوج عثمان كانت من قبيلتهم، وأمثلة ذلك كثيرة في الجاهلية وبعد الإسلام.
آثار العصبية القبلية:
ومن الواضح أن العصبية القبلية كانت من أهم أسباب النزاع الذي نشب بين العرب في الجاهلية، وقد اتخذت هذه العصبية أشكالا مختلفة، ظهرت في شكل مفاخرات، وفي شكل منافرات، وأخيرا جرّت إلى نشوب معارك دموية، وأورثت أحقادا وحزازات تأصلت في نفوس العرب. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها صاحب الدعوة -عليه السلام- في محوها من نفوسهم، فقد بقيت تشغل معظم تاريخ النزاع في جزيرة العرب, وفي غيرها أيضا حوالي ثلاثة قرون من الزمان.
وأشهر حوادث المنافسة ما كان بين القبائل القحطانية والعدنانية، وقد يفوت القارئ ملاحظة ذلك أثناء اطلاعه على تاريخ المعارك؛ لأنهم قلما يذكرون انتساب القبائل إلى إحدى هاتين العصبيتين، فيقولون مثلا: