للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان النقاد والشعراء والرواة يجتمعون في الأسواق, فينشد الشعراء, وينقد النقاد، ويذيع الرواة ما سمعوه في كل مكان. وكان النابغة الذبياني حكم الشعراء بسوق عكاظ، وكانت تضرب له قبة فيه، فتأتيه الشعراء ينشدونه قصائدهم فيحكم لبعضهم على الآخرين.

وكان هذا الميدان الأدبي الفسيح، بما فيه من آذان مرهفة، وعيون متطلعة, وأذواق حصيفة، يحمل الشعراء والخطباء على التجويد والتهذيب والتنقيح، ويدعوهم إلى تخير الألفاظ العذبة، والأساليب الجميلة، والمعاني الرائعة؛ قصدا إلى الوضوح والإفهام والإمتاع، ومن ورائهم الرواة يذيعون هذا الأدب المختار في البلاد، وينشرونه في القبائل، ويروونه في كل مكان للسامعين.

ذلك هو الأثر الأدبي الكبير لهذه الأسواق, فوق أثرها الخطير في توحيد العقائد والأخلاق والعادات، والنهوض الحثيث بالمجتمع العربي، والسير به في طريق الوحدة التي بلغها بعد ظهور الإسلام ونبيه الكريم.

٣- وللأسواق عمل لغوي خطير، فقد كانت سببا في التقريب بين لغات العرب ولهجاتهم.

كانت تنزل بها شتى القبائل العربية على اختلافها، من قحطانيين وعدنانيين، كما كان ملك الحيرة يبعث تجارته إليها، ويأتيها التجار من مصر والشام والعراق.

فكان هذا الاجتماع الكبير وسيلة من وسائل التفاهم اللغوي، والتقارب بين اللغات واللهجات العربية، واختيار القبائل بعضها من بعض. وكانت الأذواق المرهفة في هذه الأسواق تعمل عملها في النقد اللغوي، فتأخذ كل قبيلة من لغة الأخرى ما خفّ على النطق، وعذب في الألسنة, وظهرت فصاحته من مختلف الألفاظ والأساليب.

وكان القرشيون خاصة من بين قبائل العرب وبتأثير اجتماعات الحج والأسواق والحروب، أكثر القبائل ميلا إلى النقد اللغوي, فاقتبسوا من

<<  <   >  >>