وأهم هذه الاجتماعات كلها اجتماعات الحج، واجتماعات الأسواق:
أ- أما الحج فقد سن من عهد إبراهيم -عليه السلام- وكان العرب يفدون إلى البيت الحرام من كل فج عميق، حتى جاءت قريش, فكانوا جيرته وسدنته، وقد كانت قريش على جانب من الثقافة، والرقي الفكري، والذوق الأدبي، فاستطاعت بذلك أن تميز بين اللهجات والألفاظ، وأن تنتقي ما خفّ على اللسان وحلا في الآذان، من ألفاظ القبائل الوافدة عليها؛ فارتقت لغتهم، وتنزهت عن مستبشع اللغات، وبذلك مرنوا على نقد الألفاظ، وصاروا أجود العرب انتقاء للأفصح والأسهل والأبين، وأخذت القبائل تحاكيها في لغتها وتأخذ عنها كما أخذت عنهم. وكان لقريش عمل آخر في هذا السبيل، وهو إدخالهم في اللغة ألفاظا كثيرة جلبوها في رحلاتهم التجارية من الشام وفارس والحبشة بعد أن عربوها، وصارت بلغتهم آلف. وبذا تتبين: أن قريشا كانت تقوم بأكثر مما تقوم به المجامع اللغوية في توحيد اللغة وتوسيعها!
ب- وأما الأسواق فقد كانت من العوامل في تقارب اللهجات وتداخلها؛ حتى يتيسر التفاهم، وتقضى الحاجات.
وقد انساق العرب إلى متابعة قريش على لغتها؛ لما رأوه فيها من بلاغة وفصاحة، ولما كان لها من سلطة دينية وعزة قومية, والضعيف مولع بتقليد القوي في كل زمان ومكان، فأخذوا يحاكونها ويتقربون من لغتها، ويلتزمونها في خطبهم وأشعارهم، حتى كادوا يجمعون عليها, لتسير أشعارهم في الآفاق ويتناقلها الرواة والحفاظ في كل الجهات، ولا أدل على ذلك من أن العرب في أنحاء الجزيرة فهموا كلهم القرآن عند نزوله, وتأثروا به.
فلما نزل القرآن الكريم بها زادها قوة ورسوخا وانتشارا، وزاد تلك اللهجات ضعفا واختفاء، فلم يبق منها إلا ما هو من فطرة اللسان وتأثير الأجواء. وسيظل القرآن الكريم قائما بحراستها إلى نهاية الأيام والعصور.