لإنقاذ هذه الأمة مما كانت ترسف فيه من الجهل والضلال، وليسري هذا النور منها إلى غيرها فيسعد به الناس، وتنتظم به حياتهم، ويرفه به عيشهم.
وأول هذه العوامل: ما حدث بنزول يعرب بن قحطان بيلاد اليمن, فقد قيل: إنه اتصل ببقايا العرب البائدة، وتعلم منهم لسانهم، وأعقب ذلك تغير اللغة عن أوضاعها الأولى إلى أوضاعها الجديدة التي هي مزيج من لغة العرب البائدة ولغة بابل أو الحبشة "بلاد يعرب بن قحطان"، ومن هنا نفهم مراد من يقول: إن يعرب بن قحطان أول من نطق بالعربية أي: أول من نطق بها بعد أن اتجهت هذا الاتجاه الجديد.
وثانيها: ما حدث بنزول إسماعيل -عليه السلام- وأمه بمكة، واتصاله بجرهم الثانية القحطانية، ونشأته بينهم طفلا، ومصاهرته إياهم. فقد تسرب إلى اللغة القحطانية ألفاظ عبرية من إسماعيل وأمه، وتشكلت اللغة بشكل جديد, وصارت مزيجا من اللغتين.
أما ما يقال -وقد روته بعض كتب الحديث- من أن إسماعيل أول من انفتق لسانه بالفصحى، فمعناه: أنه أول من تكلم بها بعد هذه النشأة الجديدة، وليس المراد أنه أول من تكلم بالنهج القرآني الفصيح؛ لأن بين إسماعيل وبين نزول القرآن تسعة عشر قرنا, لا يتصور أن تظل اللغة العربية فيها جامدة على ما كانت عليه، ولا تتغير ولا تتبدل١.
وليس بغريب أن يشتد الخلاف بين اللغتين اليمنية والحجازية، وإن كانت القحطانية أصلحها؛ لأن ما بين الإقليمين من بعد الشقة، واختلاف البيئة، إلى قلة طرق الاتصال، كفيل بأن يباعد بين اللغتين.
وثالثها: اختلاط القبائل واجتماعاتها, وقد أخذت عوامل الاختلاط التي من أهمها: حادث سيل العرم، والحروب، والاتجار، والحج، تحدث أثرها العظيم في تفاهم القبائل وتقارب لغاتها؛ ففي هذه الاجتماعات يضطرون إلى التحادث، ويأخذ كل فريق عن صاحبه.
١ نشير بهذا إلى ما ذكره الجاحظ في البيان جـ٣ ص١٧٨.