ولكن ما ورد من هذه الأخبار لم يسلم من الدسّ والتحريف والمبالغات كما حدث لغيرهم من الأمم، إلا ما تضافرت الروايات على صدقه، كقصة الفيل ونحوها.
٢- الأنساب: وكانوا من أحفظ الأمم, وأشدها عناية بحفظ أنسابهم؛ لأنها مناط فخرهم وعزّهم ومدار منافراتهم, وهم إليها محتاجون في حروبهم للتناصر والتساند, فكان أحدهم إذا سُئل عن نسبه، ذكر عددا كبيرا من آبائه. وكان في كل قبيلة نَسَّابة يعرف من أنساب العرب وقبائلهم وبطونهم وأفخاذهم ومفاخرهم ومثالبهم وأيامهم ووقائعهم ما يستوجب العجب والدهشة, ويستطيع أن يلحق الفرع بأصله وينفي عن القبيلة من ليس من أبنائها.
وكان من أشهر النسابين في العصر الجاهلي وما بعده: أبو بكر الصديق، وينسب إليه كثير من ألوان الحذق في معرفة النسب العربي ومفاخره ومغامزه, حتى إن حسان بن ثابت لما أراد هجاء قريش بعث به الرسول -صلوات الله عليه- إلى أبي بكر؛ ليعلمه نسبهم وما يمكن القدح من جهته وما لا يمكن. ولما سمع أبو سفيان قصيدة حسان في هجائه التي يقول منها:
وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يقرب عجائزك المجد
قال: هذا الشعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة.
ولما هجا حسان قريشا، قال له رسول الله صلوات الله عليه:"كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي "؟ فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له:"ايت أبا بكر؛ فإنه أعلم بأنساب القوم منك" فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم، فكان يقول له: كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة. وأبو بكر هو صاحب المثل المشهور:"إن البلاء موكل بالمنطق".