ولا بدع، فنحن نعلم أن العرب كانوا قبائل متناحرة متنازعة، تقتتل لأوهى الأسباب وأتفه الأمور، ومن أبرز شمائلهم: العزة والأنفة, والنفور من العار وحماية الجار والحرص على الأخذ بالثأر, والمباهاة بالعصبية والمفاخرة بالنسب, والتشدق بالبيان. فالخطابة إذًا ضرورة من ضروراتهم وحاجة من حاجاتهم, يتخذونها في السلم أداة للمفاخرة والمنافرة ويصطنعونها في الحرب لتثبيت الجنان وتحميس الجبان، وبعث الحمية في النفوس, وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف.
ولهذا علت منزلة الخطيب, وراح الشعراء يفتخرون بالخطابة, ويتغنون بها فيما يتغنون به من المفاخر.
وقد زادها رفعة أنها كانت لسان الأشراف والرؤساء والنابهين من القبائل، يفضلونها على الشعر الذي غض منه امتهان الشعراء له بالتكسب والارتزاق.
فازدهار الخطابة إذًا في الجاهلية يرجع إلى الحرية التي لا يحدها سلطان ولا تقيدها حكومة، وإلى القتال الدائم بين القبائل وما يتطلبه من تحميس أو حض على ثأر، وإلى حب المفاخرة المتأصل في العرب، وإلى تأصل ملكة البيان فيهم، وقدرتهم على التصرف في وجوه القول وتشقيق الكلام، وإلى ابتذال الشعر آخر الأمر بالتكسب واختصاص الرؤساء والزعماء بها.
وهكذا كانت موضوعاتها تدور حول الحث على القتال والأخذ بالثأر، والدعوة إلى الصلح بالتنفير من الحرب وويلاتها، والمفاخرة بالمكارم والعصبيات، والسفارة بين القبائل العربية، أو بينها وبين جيرانها في: التعازي والتهاني والاستنجاد وتأمين السبل وحراسة التجارة. وكان من موضوعاتها خطب النكاح، كما كانت تتناول الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والتبشير برسوله كما سنرى في خطب دعاة التوحيد مثل: قس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي، والمأمور الحارثي.
والخطب الجاهلية قصيرة بوجه عام، وفي الغالب؛ ولعل ذلك راجع إلى إيثار الإيجاز ورغبتهم في حفظها وانتشارها. قيل لأبي عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال: نعم ليسمع منها, فقيل له: وهل كانت توجز؟ فقال: نعم ليحفظ عنها, ولكل مقام.