للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما الخطيب فكانوا يشترطون فيه السيادة في القوم، والكرم في الخلق، والعمل بما يقول، ولا بد أن يكون جهير الصوت، رابط الجأش، ثابت الجنان، قوي الحجة، فصيح اللسان، قليل الحركة، حسن السمت، جميل المظهر. وكان من عادته أن يقف على نشز١ مرتفع معتجرا بعمامته، قابضا بيده على سيف أو عصا؛ وذلك كله للتأثير بإظهار الملامح، وإبعاد مدى الصوت. ومنهم من كان يمسك العصا في السلم والقوس في الحرب.

ويظهر أنهم كانوا يرتجلون القول ارتجالا, بلا معاناة ولا مكابدة. وإنما يصرفون الهمم إلى الغرض؛ فتأتي المعاني متدفقة، وتنثال الألفاظ انثيالا، كما يقول الجاحظ٢. ويشيع في الخطابة الجاهلية السجع، وقصد التجويد والتحبير. والمأثور من خطب الجاهليين قليل, أقل من الشعر المروي عنهم، والسبب في ذلك صعوبة حفظ النثر بعدم تقيده بوزن أو قافية، وسرعة نسيانه، وعدم تدوينه؛ لأميتهم وغير ذلك، مما أدى إلى ضياع الكثير من الخطب, واختلاف الرواية فيما بقي منها بطول العهد وتناقل الرواة.

دفاع عن الخطابة الحجازية:

يقول الدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي: "كان في العرب قبل الإسلام خطباء، ولكني لا أتردد في أن خطابتهم لم تكن شيئا ذا غناء، وإنما الخطابة العربية فن إسلامي خالص؛ وذلك أن الخطابة ليست من هذه الفنون الطبيعية التي تصدر عن الشعوب عفوا, يغنى بها الأفراد لنفسها، وإنما هي ظاهرة اجتماعية ملائمة لنوع خاص من الحياة، وكل الحياة الاجتماعية للعرب قبل الإسلام لم تكن تدعو إلى خطابة قوية ممتازة، فالحواضر كانت حواضر تجارة ومال واقتصاد, ولم


١ نشز: مرتفع، وهذه العادة في غير الزواج.
٢ ويرى بعض الباحثين أن خطباء العرب كانوا يذهبون مذهب أصحاب التجويد والتحبير، وأنهم صاغوها صياغة فنية وهذا بعيد "الفن ومذاهبه في النثر العربي ص١٢-١٤, لشوقي ضيف".

<<  <   >  >>