يكن للحياة السياسية فيها خطر يذكر, ولم تكن لهم حياة دينية قوية تحتاج إلى إلقاء الخطب كما تعود النصارى والمسلمون. وأهل البادية كانوا في حرب وغزو وخصومات، وهذا يدعو إلى الحوار والجدال لا إلى الخطابة، فالخطابة تحتاج إلى الاستقرار والثبات والاطمئنان إلى الحياة المدنية المعقدة، وأنت لا ترى عند اليونان خطابة أيام الملوك ولا أيام البداوة ولا أيام الطغيان، وإنما الخطابة اليونانية ظاهرة ملازمة للحياة السياسية العامة ولم يعرف الرومان الخطابة أيام البداوة ولا أيام الملوك ولا أيام الجمهورية الأرستقراطية، وإنما عرفوها حين تعقدت حياتهم السياسية وظهرت فيهم الخصومات الحزبية، ولم تظهر الخطابة في أوروبا إلا في العصر الديمقراطي حين نضجت الحياة السياسية واشتركت فيها الشعوب ... فلا تصدق إذًا أنه قد كانت للعرب في الجاهلية خطابة ممتازة, إنما استحدثت الخطابة في الإسلام؛ استحدثها النبي والخلفاء، وقويت حين ظهرت الخصومة السياسية الحزبية بين المسلمين"١.
ولسنا نوافق الدكتور طه حسين على هذا التهوين من شأن الخطابة الجاهلية:
١- فقد علمنا أن الأمة العربية أمة حربية, توفرت لديها دواعي الخطابة من الأنفة من العار، والأخذ بالثأر، والتفاخر بالأنساب، وكانت لها أيام حربية ووقائع لا تنتهي دعت إليها حياتهم وطبيعة بيئتهم وبداوتهم، وهذه المقامات تستدعي الخطابة وتجعلها قوية مزدهرة. ولقد كانوا يتنازعون السلطة في الرفادة والحجابة وغيرهما. وكان اتصالهم السياسي بالأمم المجاورة كالفرس والروم مدعاة إلى هذه الحروب والأيام المشهورة التي كان صوت الخطابة فيها قويا بجانب الشعر.
٢- ومع هذه النهضة السياسية كانوا على جانب من الحضارة اكتسبوه من اليمن وهذه الأمم المجاورة التي اتصلوا بها واشتبكوا معها في الحروب. فقد تهيأ لهم ما ينكره الدكتور طه من الحضارة والتنازع السياسي والديني.
٣- على أنه لا يعقل أن تظفر الخطابة، من ضعفها الذي يدعيه، إلى هذه