للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لذلك قد أودع الله تعالى قلوب بني آدم من المعارف الفطرية الضرورية ما يفرقون به بين الحق والباطل، وما يجعلها مستعدة لإدراك الحقائق، ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من هذا الاستعداد والتمكن، ما أفاد النظر ولا الاستدلال ولا البرهان، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا هذا الاستعداد لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وأيضاً فكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل، وأعظم من ذلك (١).

فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله تعالى تصديقاً به، وتدينا له، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، ويخرجها عما فطرت عليه، والقلب إنما خلق لأجل حب الله، وتعظيمه وعبادته، والإخلاص له، لأن معرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه، وقد فطر الله القلوب على قيام هذا المقتضي بها، ولولا ما يعرض لها من الشبهات، والشهوات، لاستمرت عليه، ودانت به، ومع ذلك، فهي تظهر عند حلول الحوادث العظام، والخطوب الجسام، فيجد المشرك نفسه تستغيث بالله تعالى، طبعاً وجبلة، لا تكلفاً وحيلة، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٧]، ولهذا لم تأت الرسل لتعريف الناس بالخالق ووجوده، وإنما أتت للدعوة إلى التوحيد ونفي الشريك كما قال تعالى: {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم: ٥٢]، وأتت لبيان أمر العبودية، وتفصيله على نحو لا تستقل الفطرة بالعلم به، وإن كانت أصل العبودية معلومة في الفطر، فالشرائع: أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإباحة طيب، وتحريم خبيث، وأمر بعدل، ونهي عن ظلم، وهذا كله مركوز في الفطر، وكماله وتفصيله وتبيينه موقوف على الرسل (٢).

والمقصود بيان أن الإسلام بعقائده وشرائعه هو دين الفطرة، فكل مسألة من مسائله يوجد في الفطرة ما يؤيدها ويشهد لصحتها، إما صراحة وذلك في الأصول الكبار، أو الإحالة، بمعنى أن الفطرة لا تنفر من ذلك، وهذا في تفاصيل تلك الأصول: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠)} [الروم: ٣٠].


(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل: ٥/ ٦٢.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى: ٧/ ٥٢٨، ١٠/ ١٣٤ - ١٣٥، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم: ٤٠٤.

<<  <   >  >>