وَقَوْلُهُ: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ» التَّصْرِيَةُ فَسَّرَهَا الشَّافِعِيُّ بِأَنْ يَرْبِطَ أَخْلافَ النَّاقَةِ أَوِ الشَّاةِ، وَيُتُرَكَ حَلْبَهَا الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا، ثُمَّ تُبَاعَ، فَيَظُنَّهَا الْمُشْتَرِيَ كَثِيرَةَ اللَّبَنِ، فَيَزِيدَ فِي ثَمَنِهَا، فَإِذَا حَلَبَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، وَقَفَ عَلَى التَّصْرِيَةِ وَالْغُرُورِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مَنْ صَرَّيْتُ الْمَاءَ، وَهُوَ حَبْسُ الْمَاءِ وَجَمْعُهُ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الرَّبْطِ، لَكَانَ مَصْرُورَةً، أَوْ مُصَرَّرَةً.
وَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَصُرُّ ضُرُوعَ الْحَلُوبَاتِ إِذَا أَرْسَلَتْهَا تَسْرَحُ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الرِّبَاطَ إِصْرَارًا، فَإِذَا أَرَاحَتْ، حُلَّتْ تِلْكَ الأَصِرَّةُ وَحُلِبَتْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ المُصِرَّةِ مُصْرَرَةً، أُبْدِلَتْ إِحْدَى الرَّائَيْنِ يَاءً، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشَّمْس: ١٠] وَأَصْلُهُ: دسسها، أَيْ أَخْمَلَهَا بِمَنْعِ الْخَيِر.
وَتُسَمَّى الْمُصَرَّاةُ مُحَفَّلَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَرَدَّهَا، فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا، سُمِّيَتْ مُحَفَّلَةً لِحُفُولِ اللَّبَنِ وَاجْتِمَاعِهِ فِي ضَرْعِهَا، وَالْحَفْلُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ.
ثُمَّ حُكْمُ الْمُصَرَّاةِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا عَلِمَ بِهَا بَعْدَ مَا حَلَبَهَا، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِعَيْبِ التَّصْرِيَةِ، وَيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ مَكَانَ مَا حَلَبَ مِنَ اللَّبَنِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا خِيَارَ لَهُ بِسَبَبِ التَّصْرِيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute