فعدت ثالثة، فلم أجده، ورأيته في معجم الصحابة لابن قانع، فجئت إلى الشيخ وأخبرته، فبمجرد ما سمع مني ذلك، أخذ نسخته، وأخذ القلم فضرب على لفظ ابن ماجة، وألحق ابن قانع في الحاشية، فأعظمت ذلك وهبته، لعظم منزلة الشيخ في قلبي، واحتقاري في نفسي، فقلت: ألا تصبرون لعلكم تراجعون، فقال: لا، إنما قلدت في قولي ابن ماجة، البرهان الحلبي.
ولم أنفك عن الشيخ، إلى أن مات، ولزمت شيخنا العلّامة أستاذ الوجود محيي الدين الكافيجي، أربع عشرة سنة، فأخذت عنه الفنون، من التفسير والأصول والعربية والمعاني، وغير ذلك، وكتب لي إجازة عظيمة، وحضرت عند الشيخ سيف الدين الحنفي دروسا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشيته عليه، وتلخيص المفتاح والعضد، وشرعت في التصنيف في سنة ست وستين، وبلغت مؤلفاتي إلى الآن ثلاث مئة كتاب، سوى ما غسلته ورجعت عنه، وسافرت بحمد الله تعالى، إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، والتكرور، ولما حججت شربت من ماء زمزم، لأمور منها: أن أصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر.
وأفتيت في مستهل سنة إحدى وسبعين، وعقدت إملاء الحديث من مستهل سنة اثنين وسبعين، ورزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، على طريقة العرب والبلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة، سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلا عمن هو دونهم، وأما الفقه، فلا أقول ذلك فيه، بل شيخي فيه أوسع نظرا، وأطول باعا، ودون هذه السبعة في المعرفة، أصول الفقه، والجدل، والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض، ودونها القرآات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطب، وأما علم الحساب، فهو أعسر شيء عليّ، وأبعده من ذهني، وإذا نظرت في مسئلة تتعلق به، فكأنما أحاول جبلا أحمله، وقد كملت عندي الآن آلات الجهاد بحمد الله تعالى.
أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى، لا فخرا، وأي شيء في الدنيا حتى يطلب تحصيلها في الفخر، وقد أزف الرحيل، وبدا الشيب، وذهب أطيب العمر، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا، بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية، ومداركها ونقوضها وأجوبتها، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها، لقدرت على ذلك، من فضل الله، لا بحولي، ولا بقوتي، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.
وقد كنت في مبادي الطلب قرأت شيئا في علم المنطق، ثم ألقى الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه، فتركته لذلك، فعوضني الله تعالى عنه علم