للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وهاهنا أمر ينبغي التفطنُ له وهو أنَّ التدقيقَ في التوقف عن (١) الشبهات إنَّما يَصْلُحُ لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعمالُه في التقوى والورع، فأما مَنْ يقع في انتهاك المحرَّمات الظاهرة، ثم يريد أنْ يتورَّعَ عن شيء من دقائق الشُّبَهِ، فإنَّه لا يحتمل له ذلك، بل يُنكر عليه، كما قال ابنُ عمر لمن سأله عن دم البعوض من

أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلُوا الحسين، وسمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هُمَا رَيحَانَتاي من الدُّنيا» (٢).

وسأل رجلٌ بشرَ بنَ الحارث عن رجلٍ له زوجةٌ وأُمَّه تأمره بطلاقها، فقال: إنْ كان بَرَّ أمه في كُلِّ شيءٍ، ولم يبق من برِّها إلا طلاقُ زوجته فليفعلْ، وإنْ كان يَبَرُّها بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أُمِّه، فيضربها، فلا يفعل.

وسئل الإمامُ أحمد رحمه الله عن رجلٍ يشتري بقلاً، ويشترط الخُوصة، يعني: التي تربط بها جُرْزَةُ (٣) البقل، فقال أحمد: أيش هذه المسائل؟! قيل لهُ: إنَّه إبراهيمَ بن أبي نعيم، فقال أحمد: إنْ كان إبراهيمُ بنُ أبي نعيم، فنعم هذا يُشبه ذاك.

وإنَّما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنَّه أمر من يشتري له سمناً، فجاء به على ورقة، فأمر بردِّ الورقة إلى البائع.

وكان الإمام أحمد لا يستمدُّ من محابر أصحابه، وإنَّما يُخرج معه محبرَةً يستمدُّ منها، واستأذنه رجل أنْ يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسَّم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع،

وكان يُنكِرُه على من لم


(١) عبارة: «التوقف عن» سقطت من (ص).
(٢) أخرجه: الطيالسي (١٩٢٧)، وأحمد ٢/ ٨٥ و ٩٣ و ١١٤ و ١٥٣، والبخاري ٥/ ٣٣
(٣٧٥٣) و ٨/ ٨ (٥٩٩٤) وفي " الأدب المفرد "، له (٨٥)، والترمذي (٣٧٧٠)، والنسائي في " الخصائص " (١٤٥)، وأبو يعلى (٥٧٣٩)، وابن حبان (٦٩٦٩)، والطبراني في " الكبير " (٢٨٨٤)، وأبو نعيم في " الحلية " ٥/ ٧٠ - ٧١ و ٧/ ١٦٥، والبغوي
(٣٩٣٥) من طرق عن ابن عمر، به.
(٣) في (ص): «عوزة».

<<  <   >  >>