للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والثاني: أنْ يكونَ العبدُ إذا أُصيبَ بمصيبةٍ في دُنياه مِنْ ذهابِ مالٍ، أو ولدٍ، أو غير ذلك، أرغبَ في ثواب ذلك ممَّا ذهبَ منه مِنَ الدُّنيا أنْ يبقي له، وهذا أيضاً ينشأُ مِنْ كمالِ اليقين.

وقد روي عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: «اللهُمَّ اقسم لنا مِنْ خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين معاصِيكَ، ومِنْ طاعتك ما تبلِّغُنا به جنَّتك، ومِنَ اليقين ما تهوِّنُ به علينا مصائبَ الدُّنيا» (١)

وهو من علامات الزُّهد في الدُّنيا، وقلَّةِ الرَّغبة فيها، كما قال عليٌّ - رضي الله عنه -: من زهد في الدُّنيا، هانت عليه المصيباتُ.

والثالث: أنْ يستوي عندَ العبد حامدُه وذامُّه في الحقِّ، وهذا من علامات الزُّهد في الدُّنيا، واحتقارها، وقلَّةِ الرَّغبة فيها، فإنَّ من عظُمتِ الدُّنيا عنده أحبَّ المدحَ وكرِهَ الذَّمَّ، فربما حمله ذلك على تركِ كثيرٍ مِنَ الحق خشيةَ الذَّمِّ، وعلى فعلِ كثيرٍ مِنَ الباطلِ رجاءَ المدح، فمن استوى عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، دلَّ على سُقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه مِنْ محبَّة الحقِّ، وما فيه رضا مولاه، كما قال ابن مسعود: اليقين أنْ لا تُرضي النَّاسَ بسخط الله (٢). وقد مدح الله الذين يُجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.

وقد روي عن السَّلف عبارات أخرُ في تفسير الزُّهد في الدُّنيا، وكلها تَرجِعُ إلى ما تقدَّم، كقول الحسن: الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال: هو أفضل مني، وهذا يرجع إلى أنَّ الزاهد حقيقةً هو الزَّاهدُ في مدح نفسه وتعظيمها، ولهذا يقال:

الزهد في الرِّياسة أشدُّ منه في الذهب والفضة (٣)، فمن أخرج مِنْ قلبه حبَّ الرياسة في الدُّنيا، والتَّرفُّع فيها على الناس، فهو الزاهد حقاً، وهذا هو الذي يستوي عنده حامدُه وذامُّه في الحقِّ، وكقول وهيب بن الورد: الزهد في الدُّنيا أنْ لا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها (٤)،


(١) أخرجه: الترمذي (٣٥٠٢)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (٤٠٢)، والحاكم ١/ ٥٢٨، والبغوي (١٣٧٤) من حديث عبد الله بن عمر، به، وقال الترمذي: «حسن غريب». …
(٢) سبق تخريجه.
(٣) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٨/ ٢٣٨ من قول يوسف بن أسباط.
(٤) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " ٨/ ١٤٠.

<<  <   >  >>