ظهر لرجل من أخيه شرٌّ، فأبغضه عليه، وكان الرَّجُل معذوراً فيه في نفس الأمر، أثيب المبغضُ له، وإن عُذِرَ أخوه، كما قال عمر: إنَّا كُنَّا نعرفكُم إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرنا، وإذ ينْزل الوحيُ، وإذ يُنبِّئُنا الله مِنْ أخبارِكُم ألا وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِ انطُلِقَ به، وانقطعَ الوحيُ، فإنَّما نَعْرفكم بما نَخْبُركم، ألا مَنْ أظهرَ منكم لنا خيراً ظننَّا به خيراً، وأحببناه عليه، ومَنْ أظهر منكم شرّاً، ظننا به شراً، وأبغضناه عليه، سرائرُكم بينكم وبينَ ربِّكم - عز وجل -» (١).
وقال الربيع بن خُثَيْم: لو رأيت رجلاً يُظهر خيراً، ويُسرُّ شرّاً، أحببتَه عليه، آجرَك الله على حبِّك الخيرَ، ولو رأيت رجلاً يُظهر شرّاً، ويسرُّ خيراً أبغضته عليه، آجرَك الله على بُغضك الشرَّ.
ولمَّا كثُرَ اختلافُ النَّاس في مسائل الدِّين، وكثرَ تفرُّقُهم، كثُر بسببِ ذلك تباغُضهم وتلاعُنهم، وكلٌّ منهم يُظهِرُ أنَّه يُبغض لله، وقد يكونُ في نفس الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متَّبِعاً لهواه، مقصِّراً في البحث عن معرفة ما يُبغِضُ عليه، فإنَّ كثيراً من البُغض كذلك إنَّما يقعُ لمخالفة متبوع يظنُّ أنَّه لا يقولُ إلاَّ الحقَّ، وهذا الظَّنُّ خطأٌ قطعاً، وإنْ أُريد أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ فيما خُولِفَ فيه، فهذا الظنُّ قد يُخطئ ويُصيبُ، وقد يكون الحامل على الميلِ مجرَّد الهوى، أو الإلفُ، أو العادة، وكلُّ هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغضُ لله، فالواجبُ على المؤمن أن ينصحَ نفسَه، ويتحرَّزَ في هذا غاية التحرُّزِ، وما أشكل
منه، فلا يُدخِلُ نفسَه فيه خشيةَ أن يقعَ فيما نُهِيَ عنه مِنَ البُغض المُحرَّمِ.
وهاهنا أمرٌ خفيٌّ ينبغي التَّفطُّن له، وهو أنَّ كثيراً من أئمَّةِ الدِّينِ قد يقولُ قولاً مرجوحاً ويكون مجتهداً فيه، مأجوراً على اجتهاده فيه، موضوعاً عنه خطؤه فيهِ، ولا يكونُ المنتصِرُ لمقالته تلك بمنْزلته في هذه الدَّرجة؛ لأنَّه قد لا ينتصِرُ لهذا القولِ إلاَّ لكونِ متبوعه قد قاله، بحيث أنَّه لو قاله غيرُه من أئمَّة الدِّينِ، لما قبِلَهُ ولا انتصر له، ولا والى من وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنَّه إنَّما انتصر للحقِّ بمنْزلة متبوعه، وليس كذلك، فإنَّ متبوعه إنَّما كان قصدُه الانتصارَ للحقِّ، وإنْ أخطأ
(١) أخرجه: أحمد ١/ ٤١، وهناد بن السري (٨٧٦)، والحاكم ٤/ ٤٣٩، والبيهقي ٩/ ٤٢، وفي إسناده مقال.