للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان. فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة (١) . فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (٢)


(١) ...قلت: وهذا التعمق هو المراد-والله أعلم-بقوله - صلى الله عليه وسلم -:.. وإذا ذكر القدرفأمسكوا)) . وهو حديث صحيح، روي عن جمع من الصحابة، وقد خرجته في ((الصحيحة)) (٣٤) . (ن)
(٢) ...أي لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه. كذا في ((الشرح)) وراجع فيه تحقيق أن مبنى العبودية والإيمان على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، فإنه مهم جداً لولا ضيق المجال لنقلته برمته لنفاسته وعزته. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ((مجموع الفتاوى)) (١/١٤٨-١٥٠) باختصار بعض الفقرات:
((والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال.
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، ((فأول ما خلق الله القلم، قال له (*) :
=
(*) كذا وقع هنا، وهو بمعنى رواية ((فقال له)) لكن الراجح عندي الرواية الأخرى بلفظ: ((ثم قال له)) كما كنت حققته في ((تخريج شرح الطحاوية)) . وله شاهد عن ابن عباس خرجته في الصحيحة (١٣٣) . (ن)

... أكتب، قال: ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه، لم يكن ليصيبه. جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: ٧٠] .
...وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات.
اكتب رزقه، وأجله، وعمله وشقي أو سعيد ونحو ذلك. فهذا القدر ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكره اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات.
ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين، والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: ٢٨، ٢٩] وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها.
قلت: ويشير بكلامه الأخير إلى الأشاعرة، فإنهم هم الذين غلوا وأنكروا الحكمة على مافصله ابن القيم في ((شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) . فراجعه فإنه هام جداً. (ن)

<<  <   >  >>