للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تستوحش إلا منه وهو فعلك" فقال: يا نبي الله أحب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب وندخره فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يأتيه بحسان فاستبان لي القول قبل مجيء حسان فقلت: يا رسول الله قد حضرني أبيات أحسبها توافق ما تريد فقلت:

تخير خليطا من فعالك إنما ... قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

ولا بد بعد الموت من أن تعده ... ليوم ينادي المرء فيه فيقبل

فإن تك مشغولا بشيء فلا تكن ... بغير الذي يرضى به الله تشغل

فلن يصحب الإنسان من بعد موته ... ومن قبله إلا الذي كان يعمل

أقول: روى البخاري عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة" ولا يخفى على حكماء الكلام والماهرين بسرائر الأقلام أن بعض الشعر وهو الذي كان محمودا شرعا مندرج في مفهوم الحكمة لأن مفهوم الشعر أخص من وجه من مفهوم الحكمة والمقصود من هذا الكلام بيان فضيلة الشعر فينبغي أن يقع الشعر مخبرا عنه ويكون مقدما في الذكر وحق العبارة أن يقال: بعض الشعر حكمة ولكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة" فأبقى التقدم اللفظي على أصله للاهتمام بشأن الشعر وإفادة الحصر وقلب الأسلوب المعنوي وجعل الحكمة مخبرا عنه للمبالغة في مدح الشعر أي: ماهية الحكمة بعض الشعر فلزم أن يكون أفراد الحكمة بأسرها بعض الشعر ومندرجة تحته فإن اندراج الماهية مستلزم لاندراج جميع الأفراد وقصد - صلى الله عليه وسلم - من إفادة الحصر بتقديم الخبر وإيراد الكلام على أسلوب التأكيد مبالغة فيكون معنى الكلام الأقدس: إنما الحكمة بعض الشعر

ولله لطف ما أودعه صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - كلامه وهو أن المبالغة لها مناسبة بالشعر فراعى - صلى الله عليه وسلم - هذه المناسبة الشعرية في كلام أورده في مدح الشعر وأفاد سندا كاملا لجواز المبالغة إذا اقتضت مصلحة دينية ومثله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحرا" قال الطيبي١ في تبيانه: من للتبعيض والكلام فيه تشبيه وحقه أن يقال: إن بعض البيان كالسحر فقلب وجعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا ووجه التشبيه يتغير بتغير إرادة المدح والذم. انتهى.

يعني: أن السحر له وجهان: المدح والذم ووجه تشبيه البيان به هاهنا الأول قال المحقق الشريف٢ في حواشي الكشاف عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فإن قيل: لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس أجيب: بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من الناس ويتعجب منه ورد: بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار ولا يقصد منها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا كقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} فالأولى: أن يجعل


١ هو شرف الدين الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي، من علمار الحديث والتفسير والبيان، من كتبه في ذلك "التبيان في المعاني والبيان" توفي سنة ٧٤٣هـ = ١٣٤٢م.
٢ الجرجاني سبقت ترجمته في ص٢٣.

<<  <   >  >>