للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان كل قارئ ربّما قرأ بما شاء من الأحرف بناءً على أصل الرّخصة في ذلك، فإذا اجتمع التّلاميذ النّاشئة عجبوا لقراءة بعضهم، ثمّ تطوّر ذلك إلى الجدالِ أيُّ القراءاتِ أفصح، ثم آل الحال إلى الخصومةِ وتأثيمِ بعضهم بعضاً (١).

وقد رأى ذلك الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أثناء مشاركته في فتوح أرمينيّة وأذربيجان، ففزع من ذلك، وخشي أنْ يحدث الخلاف بين المسلمين في كتاب ربهم، فلما قدم على عثمان - رضي الله عنه - قال له: "يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة، قبل أن يختلفوا في الكتاب

اختلاف اليهود والنصارى" (٢).

وأمام هذه الفتنة الكبيرة كان الهمّ الأكبر هو المحافظة على صحّة النص القرآني في مقابل بوادر الاختلاف التي ظهرت مهددةً الموقف الموحد للمسلمين من مصدر تشريعهم.

«فاتفق رأي الصحابة وعثمان -رضوان الله عليهم- على أن يجمع لهم القرآن على حرفٍ واحدٍ من تلك السبعة الأحرف» (٣).

فخلاصة ما حدث هو اتفاق الصّحابة بالإجماع (٤) على الأخذ بحرف واحد من الأحرف السّبعة، درءاً للفتنة، وتمشياً مع أصول التشريع الإسلامي، وأخذاً بأصل الرّخصة. وتمّ اختيار حرف قريش لأنّه هو الغالب في القرآن، وبه ابتدأ إنزاله قبل أن يستوعب الأحرف الباقية، وكان الأقوى من بين سائر اللهجات لمكانة قريش بين القبائل.

ولقد آتى هذا الاجتهاد العثمانيُّ ثمرته الطيبة، فبقي اتفاق الأمة على كتابها إلى هذا اليوم.

وقولنا "تمشياً مع أصول التشريع" مردّه إلى أنَّ التدرجَ سمةٌ من سمات التشريع الإسلامي، وهو من مزاياه الواضحة، ومن جوانب الحكمة فيه، مراعاة للتيسير على النّفوس، لتتقبل


(١) انظر: تاريخ التشريع الإسلامي، منّاع القطّان، ص١٩٣.
(٢) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ح٤٩٨٧، ص١٢٧٥.
(٣) انظر: الاستذكار، ابن عبد البر ٨/ ٤٤ - ٤٥.
(٤) امتنع عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بادئَ الأمر من إحراق مصحفه، ثمّ رجع طواعية لما رأى إجماع الصحابة على ما فيه مصلحة الأمّة. انظر: جمع القرآن حفظاً وكتابة، علي بن سليمان العبيد، ص٥١.

<<  <   >  >>