وهكذا نجحوا في تحويل الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه، وجعلوا لفظة الدين عند الشعوب الأوروبية مرادفة للظلم والرجعية والتخلف والاستبداد.
وأياً ما كان الأمر؛ فإن الثورة الفرنسية كانت فاتحة عصر جديد في التاريخ الأوروبي، إذ توالت الثورات كالبراكين في أنحاء القارة وعرفت أوروبا - ربما لأول مرة - شيئاً اسمه حقوق الإنسان، ولا تزال تنسبه لهذه الثورة إلى اليوم، وكان نجاح أي ثورة يعني انهيار النظام الإقطاعي وانهيار نفوذ الكنيسة، ولذا فإن من الطبيعي لتغير عميق كهذا أن يصحبه فراغ هائل في المعتقدات والقيم، فإذا علمنا أن هناك من يستغل هذا الفراغ لتحطيم إنسانية الإنسان وتدمير قيمه، أدركنا المغزى الحقيقي للحرية التي نادت بها تلك الثورات.
إن كل الشعارات البراقة التي رفعت لتحل محل الإيمان الديني لم تفِ بهذا الغرض، كما فشلت جميع الدساتير والنظم في جلب الاستقرار للقارة، ولذلك شهدت أوروبا في الفترات التالية ما لا يحصى من الاتجاهات الفكرية والاجتماعية الحائرة، كما شهدت حروباً طاحنة مدمرة جعلت خريطة أوروبا عرضة للتغير المستمر، وحلت الفاجعة الكبرى بالدين والأخلاق والتقاليد التي أصبحت ينظر إليها وكأنها قطعة متحجرة من الماضي البغيض.