فطر الله النفس الإنسانية على الإيمان بالغيب، (١) وهو ما لا يستطيع الإدراك الذاتي أن يكتشفه، ومن هنا نشأ فيها والتوق إلى المجهول والشوق لمعرفته، حتى أن كثيراً من الموضوعات والحقائق تكتسب الجاذبية والإعجاب ما دامت مجهولة، فإذا انتقلت إلى حيز الوجود فقدت ذلك، ولا تستطيع النفس البشرية بمفردها أن تتلمس الخط الفاصل بين الغيب والشهادة وبين المعلوم والمجهول، بل لابد من الالتجاء إلى الوحي الإلهي لمعرفته، وذلك هو الطريق السليم الوحيد، لكن البشر يضلون، فيلتمسون ذلك من طرق أخرى، ويحاولون إشباع الرغبة الفطرية في الإيمان بالغيب والتطلع إليه منقطعين عن الوحي، فيدفعهم الشيطان في التعلق بعملائه من الكهنة والسحرة والمشعوذين، وحينئذٍ يقعون في الشرك الذي جاء الأنبياء جميعاً لمحاربته بكل ضروبه.
وقد وقعت البشرية في هذه الغلطة منذ القدم، وامتلأت الوثنيات القديمة بالأسرار والأساليب الخفية والرموز الغامضة، وغلط أتباع الأنبياء غلطة أشنع لاقتباسهم لأشياء من هذه الأسرار والرموز وإدخالها في دينهم، وذلك ما حصل بعينه في المسيحية المحرفة.
وللمسيحية أسرار كثيرة متعددة الأصول بعضها إغريقي، وبعضها بوذي، وبعضها منقول عن المثرائية ديانة بولس الأولى، من هذه الأسرار ما يتعلق بأمور العقيدة كَسِر الثالوث -وهو أكبر أسرار المسيحية وأخطرها- ومنها ما يتعلق بشئون العبادة والطقوس كَسِر التعميد، وسر العشاء الرباني، وسر الاعتراف، وسر الزيت المقدس، وسر الصلاة الأخيرة للمحتضر وأمثالها.
(١) انظر: فصل (التوازن) من خصائص التصور الإسلامى: (١٦١).