وكانت ضرورات العمل السياسي -كما يدَّعون- تلجئهم إلى مخالفة الروح المسيحية فينكثون بالعهود، ويزهقون أرواح الأبرياء ويستبيحون الكذب والمواربة في سبيل تحقيق مصالحهم السياسية، غير أنهم لم يتخذوا ذلك مسلكا عاماً ولم يختلقوا له تبريراً عقلياً منافياً لتعاليم الدين.
ربما كان منهم من يتلهف للحصول على مبرر ما ليقيه على الأقل وطأة التناقضات النفسية وعقاب الضمير، لكن العثور على ذلك ظل مستحيلاً أمداً غير يسير.
وصحيح أن الكنيسة أهملت تنظيم شئون الدولة، وأن القانون الروماني كان يطبق على مسمع منها ومرأى، لكنها كانت متشددة فيما يتعلق بالسلوك الشخصي للحكام، يشاركها في ذلك عواطف الشعب وضمير الأمة، وكان الأباطرة مضطرون للتمسك بالأخلاق المسيحية كي يكسبوا ود الكنيسة، حيث أن إبقاء سلطانهم وشرعيته مرهونان برضاها عنهم، فهي التي تتولى تتويجهم وتقدس حكمهم وتباركه، ثم إن من حقها - كما قال البابا جريجوري السابع - أن تخلع المسيئين منهم وتحل رعيتهم من طاعتهم.
لهذه الاعتبارات يصح القول بأن عملية الفصل بين السياسة وبين الدين والأخلاق بمفهومها المعاصر لم تكن معروفة لدى سياسيي القرون الوسطى، وإن كانت أوروبا -حقيقة وواقعاً- لم تحكم بما أنزل الله قط في أية مرحلة من تاريخها.
وإذا تجاوزنا النظرية الكنسية إلى الفكر السياسي اللاديني، فسنجد نظريات عديدة قبل أن نصل إلى النظريات المعاصرة.