كانت أوروبا الكلاسيكية والرومانسية قد عادت كما أسلفنا إلى الوثنية، وعبدت الإنسان أو الطبيعة بطريقتها الخاصة، أما الآن فالصورة تتخذ مظهراً أخر فلم ينحصر الاهتمام بالإنسان دون الإله فحسب، بل اقتصر - من الإنسان- على وضعه الدنيوي ومكانته الاجتماعية، على واقعه المعيشي وجزء معين من نزواته ورغباته والظروف المحيطة به التي يتأثر بها سلباً وإيجاباً.
هذا التحول من الإنسانية بمفهومها الكلي عند الكلاسيكيين، ومن الطبيعة والمثالية الفردية عند الرومانسيين إلى الإنسان العادي المشخص سيتخذ سريعاً صورة وثنية جديدة تعبد الإنسان وتحل محله الإله.
وكعادة أوروبا -لا تعرف الطريق السوي ولا الموقف الوسط- سقطت سقوطاً مفاجئاً من الفضاء السحيق إلى الوحل الهابط.
كانت الرومانسية تحاول تصوير أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القوة والمثالية في مواجهة تحدي الإله أو الطبيعة أو حتى نزواته وأهوائه، فجاءت الواقعية لتصوره في أدنى ما يمكن أن يصل إليه من الهبوط في لحظات الضعف القاتلة.
كان يصارع الأقدار ويحاول إخضاع الطبيعة، فإذا به ينهزم بضعف أمام نزوة عابرة ولذة ساقطة.
لقد أخذ الواقعيون على الرومانسيين مآخذ -ليست بعيدة عن الحقيقة- فهم ينكرون عليهم إهمالهم لشئون الجماهير، وإغفالهم لحقوق الإنسان المهدرة، وسكوتهم عن المظالم التي يعج بها المجتمع في حين كانوا محلقين بأحلامهم بحثاً عن الجمال والروعة والمثالية، جاعلين هدفهم الأسمى الفناء في الطبيعة.
بل قالوا -والتاريخ يسعفهم بشيء من الأدلة- إن الرومانسيين كانوا من الطبقات الأرستقراطية أو من المقربين إليها، وكانوا شعراء