فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئاً على أن أذهب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخير في ثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبراً بعد ذلك الأيمان الموثقة، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره، وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفاً إلي، فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك، ولا أدع اغتيالك باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقض قضاءك. فخرج زرياب لوقته، وعلم قدرته على ما قال، واختار الفرار قدامه، فأعانه إسحاق على ذلك سريعاً، وراش جناحه، فرحل عنه، ومضى يبغي مغرب الشمس، واستراح قلب إسحاق منه.
وتذكر الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمساً فيه، فأمر إسحاق بحضوره، فقال: ومن لي به يا أمير المؤمنين ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يعد له، وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته، فقدر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خطبه، فيفزع من رآه، فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال: على ما كان به فقد فتنا منه سرور كثير.
ومضى زرياب إلى المغرب فنسي بالمشرق خبره، غذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ونزعت إليه نفسه وسمت به همته، فأم أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه، وخاطبه وذكر له نزاعه إليه واختباره إياه ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها وسأله الإذن في الوصول إليه، فسر الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتطلع إليه وإجمال الموعد ما تمناه، فسار زرياب نحوه بعياله وولده، وركب بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء، فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم، فهم بالرجوع إلى العدوة، فكان معه منصور